الصفحات

الصفحات

من كتابات القديس ثيؤفان الناسك ( المحاربات الروحية )


كيف تخلص النفس

 ماذا تقول للشخص الذي يسأل: "كيف أستطيع أن أخلّص نفسي؟"
هذا: تُب، وتقوَ بقوة النعمة في الأسرار الإلهية، سِرْ في طريق وصايا الله بالتوجيه الذي تعطيك إياه الكنيسة المقدسة من خلال كهنوتها الذي من الله. و هذا كله يجب أن يتم بروح من الإيمان الصادق الذي لا تحفظات فيه.
إذاً ما هو الإيمان؟
الإيمان هو الاعتراف الصادق بأن الله الذي يُعبد في الثالوث، الذي خلق كل الأشياء والذي يزوّد الكل، يحفظنا نحن الساقطين من خلال قوة موت إبن الله المتجسد على الصليب، وبنعمة الروح القدوس في كنيسته المقدسة. بدايات التجديد الذي يؤسس في هذه الحياة سوف تظهر بكل مجدها في الزمان الآتي بطريقة لا يستطيع العقل فهمها ولا اللسان التعبير عنها.

 يا ربنا، كم هي عظيمة هي مواعيدك!
إذاً كيف يسير المرء في طريق الوصايا ؟
هذا لا يمكن الإجابة عليه بكلمة واحدة، لأن الحياة هي أمر متكامل.

إليك ما هو ضروري.
أ ـ تًب واستدر إلى الله، اعترف بخطاياك، إبكِ عليها بندم في القلب، واعترف بها أمام أبيك الروحي. أنذر بالكلمة وبالقلب أمام وجه الله بألا تسيء إليه مجدداً بخطاياك.

ب ـ ثم بالثبات في الله بالفكر والقلب، إسعَ إلى أن تنجز بالجسد الواجبات والأمور التي يفرضها عليك موقعك في الحياة.

ج ـ بهذا العمل أكثر من كل شيء احفظ قلبك من الأفكار والأحاسيس الشريرة – العجب، المجد الباطل، الغضب، إدانة الآخرين، الحقد، الحسد، الاحتقار، اليأس، التعلق بالأشياء والناس، الأفكار المشتتة، القلق، كل اللذات الحسية وكل ما يفصل العقل والقلب عن الله.

د ـ لكي تثبت في هذا العمل، قرر مسبقاً ألاّ تنسحب مما تعرف أنه ضروري حتى ولو عنى ذلك الموت. لتحقق هذا، عليك أولاً عندما تقرر أن تقدّم حياتك لله كي تحيا ليس لنفسك بل لله وحده.

هـ ـ إن دعماً للحياة بهذه الطريقة هو تقديم متواضع للنفس إلى الله، وليس وقفاً على شخص الإنسان. الأرينا الروحية التي تتم فيها هذه الحياة هي الصبر أو موقف unswerving في مصاف الحياة المصلحة، مع احتمال بهيج لكل الأعمال والأحزان المرتبطة به.

و ـ  ما يدعم الصبر هو الإيمان أو الثقة بأن العمل بهذه الطريقة لله، يجعلك خادماً له وهو سيداً لك. فإذ يرى أتعابك يبتهج بها ويقدّرها. تأمّل بأن معونة الله التي تحميك في كل وقت هي دائماً حاضرة تنتظرك وسوف تنزل عليك عند حاجتك، وأن الله لن يتخلى عنك إلى نهاية حياتك ويحفظك كأحد المخلصين بوصاياه هنا وسط كل التجارب. سوف يقودك عبر الموت إلى ملكوته الأبدي. مَن يتأمل ليلاً ونهاراً بالرب المحبوب، ويحاول بشتى الطرق أن يرضيه، ويتحاشى كل ما قد يأثم إليه بالفكر أو القول أو الفعل.

ز ـ أسلحة هذه الحياة هي: الصلاة في الكنيسة وفي البيت وخاصةً الصلاة العقلية، الصوم على قدر طاقة المرء وبحسب قوانين الكنيسة،  اليقظة، الانعزال، الأعمال الجسدية، الاعتراف المتواتر بالخطايا، المناولة المقدسة، قراءة كلمة الله وكتابات الأباء القديسين، التحادث مع الذين يخافون الله، استشارة الأب الروحي بكل أمور حياة المرء الداخلية والخارجية. الأساس في تحديد هذه الأعمال ووقتها ومكانها هو الحكمة ونصح المجربين (المختبرين).

ح ـ أحرس نفسك بخوف ولأجل هذا تذكّر النهاية: الموت، الحساب، الجحيم والملكوت السماوي.

ط ـ انتبه إلى نفسك قبل كل شيء. احفظ فكرك رزيناً وقلبك بلا اضطراب .

ك ـ فلتكن إضرام نار الروح هدفك النهائي، حتى تشتعل النار الروحية في قلبك وبجمعك كل قواك في واحدة سوف تبدأ ببناء الإنسان الداخلي وبالنهاية تُحرق خطاياك وأهوائك.

رتب حياتك بهذه الطريقة وسوف تكون مخلصاً بنعمة الله.
قانون صلاة
أنتَ تسأل عن قانون صلاة. نعم، هذا جيد لا بل جيد جداً أن يكون لنا قانون صلاة بسبب ضعفنا، حتى، من جهة، لا نستسلم للكسل، ومن جهة أخرى نوجّه حماسنا إلى ما يناسب. إن ممارسي الصلاة العظماء حفظوا قانوناً محدداً. إنهم دائماً يبدأون بقطع محددة، وإذا انطلقت خلالها الصلاة من ذاتها، يضعون هذه القطع جانباً ويصلّون هذه الصلاة. كون هذا ما فعله المصلّون العظماء يجعله سبباً كافياً لنا كي نقوم به. بدون الصلوات المعروفة، لن نعرف كيف نصلي، وبالتالي، نبقى بلا صلاة.

في أي حال، ليس المرء بحاجة إلى صلوات كثيرة. إن تلاوة عدد قليل من الصلوات بشكل حسن أفضل من الاندفاع بصلوات كثيرة، لأن من الصعب الحفاظ على الحرارة في الصلاة عندما نصلّي بسرعة.

أنا أرى أن صلوات الصباح والمساء، كما هي في كتب الصلوات، كافية لك تماماً. فقط حاول في كل مرة أن تقوم بها بانتباه كلي وأحاسيس منسجمة. ولتكون أكثر نجاحاً في هذا، إمضِ قليلاً من وقت فراغك في قراءة كلٍ من هذه الصلوات على حدة. تفكّر بها وتحسّسها، حتى تتعرف إلى الأفكار المقدسة التي فيها عندما تتلوها في قانونك. الصلاة لا تعني أن نسرد الصلوات فقط، إنّما أن نهضم محتواها في ذواتنا، وننطق بها وكأنها تخرج من أذهاننا وقلوبنا.

بعد أن تكون قد استوعبت الصلوات وأحسست بها، إعمل على حفظها. عندها لن تحتاج إلى تلمّس الكتب عند وقت الصلاة، كما ولن يشوّش عليك شيء خلال صلاتك، بل تكون المحافظة على التضرع الذهني إلى الله أكثر سهولة عليك. سوف ترى بنفسك كم أنّ هذا يساعد. أنْ يكون كتاب صلواتك معك أينما ذهبت وفي كل وقت هو أمر بالغ الأهمية.

وعند وقوفك للصلاة، مهيأً هكذا، انتبه أن تحفظ فكرَك من التيهان وذهنك من البرودة واللامبالاة، مجهداً نفسك بكل الوسائل لتحفظ انتباهك وتجعل وجدانك حاراً. قمْ بقدرِ ما تريد من السجدات بعد انتهائك من تلاوة كل من الصلوات، مرفِقاً إياها بصلاة من أجل إحدى حاجاتك، أو بصلاة قصيرة. هذا سوف يطيل وقت صلاتك بعض الشيء، لكنه يزيد من قوتها. يجب أن تصلّي قليلاً لوحدك، خاصةً عند نهاية صلواتك، طالباً الغفران عن شرود الذهن وواضعاً نفسك بين يدي الله طيلة النهار المقبل.

يجب أن تحفظ أيضاً انتباهاً صلاتياً نحو الله خلال النهار. لهذا، كما ذكرنا أكثر من مرة، تذكّر الله بصلوات قصيرة. إنه جيد، وجيد جداً في بعض الأحيان، أن تحفظ عدداً من المزامير وتتلوها بتركيز فيما أنت تعمل، أو بين العمل والآخر، بدل الصلوات القصيرة. إن هذه الممارسة هي من أقدم العادات المسيحية وهي مذكورة ضمن قوانين القديسَين باخوميوس وأنطونيوس.
بعد قضاء النهار على هذا المنوال، يجب أن تصلّي باجتهاد أكبر وبتركيز أقوى في المساء. أكثِرْ من السجدات والتضرعات إلى الله، وبعد أن تضع نفسك بين اليدين الإلهتين مجدداً، إذهب إلى السرير مع صلاة قصيرة على شفتيك ونَمْ معها أو اتلُ بعض المزامير.

أيٌّ من المزامير يجب أن تحفظ؟ إحفظ تلك التي تنفُذ إلى قلبك عند قراءتها. المزامير الفعّالة تختلف بين شخص وآخر. إبدأ بـِ: إرحمني يا الله (المزمور الخمسون)، بعدها باركي يا نفسي الرب (المزمور 103)، سبحي يا نفسي الرب (المزمور 146). الأخيران هما مزامير الأنديفونات. أيضاً يوجد  في القانون مزامير للمناولة المقدسة: الرب راعيّ (المزمور 23)، للرب الأرض وكل ما فيها(المزمور 24)، آمنت ولهذا تكلمت (المزمور 116)، والمزمور الأول من صلاة المساء أللهم بادر إلى معونتي يا رب أسرع إلى إغاثتي (المزمور 70). كما أن هناك مزامير الساعات وما شابه. إقرأ كتاب المزامير واختَرْ.

بعد أن تحفظ كل هذه، تكون دائماً متسلّحاً بالصلاة. عندما تحاربك بعض الأفكار، أسرع إلى الوقوع عند قدمي الرب إمّا بصلاة قصيرة أو بأحد المزامير، خاصةً يا رب أسرِع إلى إغاثتي، وسوف تتبدد الغيمة المشوِّشة سريعاً.

إذاً هاكَ كل شيء عن قانون الصلاة. على كل حال، سوف أكرر مرة أخرى أنه عليك أن تتذكّر أن كل هذه هي أدوات مساعدة، والأمر الأكثر أهمية هو الوقوف في حضرة الله فيما الذهن في القلب بورع وسجود صادر من القلب.

لقد خطر ببالي شيء آخر أخبرك إياه! قد تحصر كل قانون الصلاة بالسجدات فقط مع صلوات قصيرة من كلماتك. استقم ثم اسجد قائلاً يا سيد ارحمني أو غيرها من الصلوات، معبّراً عن حاجتك أو ممجداً الله وشاكراً له. عليك أن تحدد إمّا عدد السجدات أو طول الصلاة أو قمْ بالإثنين معاً حتى لا تصبح كسولاً.

إن هذا ضروري، لأن فينا نوع من الغرابة غير المفهومة. عندما، مثلاً، نباشر بأي نشاط خارجي، تمر الساعات كدقائق. أمّا عندما نقف للصلاة فما أن تمر بعض الدقائق حتى يبدو وكأننا نصلي منذ وقت طويل. هذا الفكر لا يضر عندما نقوم بالصلاة بحسب قانون محدد، إنما يشكّل تجربة كبرى إذا كان المرء يتلو صلوات قصيرة مع سجدات. هذا قد يقطع الصلاة التي بالكاد بدأت تاركاً وراءها شيئاً من الاعتقاد بأنها قد تمت كما يجب. لهذا أوجد ممارسو الصلاة الجيدون المسبحة، حتى لا يقعوا في هذه الخديعة الذاتية. مسبحة الصلاة هي للذين يريدون تلاوة صلوات من عندهم وليس من كتاب. إنها تُستَعمَل مع ترداد "يا ربي يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ"، ومع كل مرة، نحرّك حبة بين أصابعنا. كرّر هذه الصلاة مرة بعد أخرى وحرّك حبة كل مرة. مع كل حبة اصنع سجدة، إمّا من الخصر أو إلى الأرض، كما تفضّل، أو بإمكانك عند الحبات الصغيرة أن تصنع سجدة من الخصر وعند الحبات الكبيرة سجدة إلى الأرض. فحوى القانون في كل هذا، هي أن تقوم بتكرار الصلاة عدداً محدداً من المرات مع سجدات يُضاف إليها صلوات أخرى بكلماتك. عندما تفكّر بتحديد عدد السجدات والصلوات، حدّد فترة زمنية، حتى لا تخدع نفسك بالاستعجال خلال قيامك بها. إذا تسلّل الاستعجال، بإمكانك أن تملأ الوقت بمزيد من السجدات.

إنّ عدد السجدات الواجب القيام بها مع كل صلاة محدد في نهاية المزامير بسلاسل من فئتين: الأولى للنشيطين والثانية للكسالى أو المشغولين. الشيوخ الذين يعيشون بيننا اليوم في الأساقيط والقلالي في أماكن مثل بلعام وسولوفكي يقومون بكامل الخدمة على هذا المنوال. إذا رغبت الآن أو في أي وقت آخر، بإمكانك تطبيق قانون صلاتك مثلهم. مع هذا، قبل أن تقوم بذلك، تعوّد أن تطبقه بالطريقة الموصوفة لك. قد لا تحتاج إلى قانون جديد. في أي حال، أنا مرسل إليك مسبحة صلاة. جرّبها! لاحظ كم من الوقت تقضي في صلوات الصباح والمساء. قم بتلاوة صلواتك القصيرة مع صلاة المسبحة ولاحظ كم مرة تلف المسبحة خلال الوقت الذي كنت تستغرقه في هذه الصلوات. فلتكن هذه الكمية قياس قانونك. لا تقم بذلك خلال وقت صلاتك العادي، بل في وقت آخر وبنفس القدر من الانتباه. إذاً، قانون الصلاة هذا يتم بهذه الطريقة: الوقوف والسجود.

بعد قراءتك هذه الرسالة لا تظن أنني أقودك إلى الدير. أنا شخصياً، أول من أخبرني عن صلاة المسبحة كان علمانياً وليس راهباً. كثيرون من العلمانيين والرهبان يصلّون بهذه الطريقة, وهي قد تناسبك. عندما تتلو صلوات من الذاكرة دون أن تحركك بإمكانك أن تصلي مستعملاً المسبحة واترك الصلوات المحفوظة ليوم آخر. هكذا تتحسن الأمور.

سوف أكرر مرة أخرى أن جوهر الصلاة هو رفع الذهن والقلب إلى الله وهذه القوانين هي أدوات مساعدة لا نستطيع الوصول بدونها بسبب ضعفنا. ليباركك الله.

كيف يحاول العدو تحويل المبتدئ عن الطريق الصحيح
العدو لن ينام. فقد لاحَظ قديسو الله أنه يعمل ضد المبتدئين بطريقتين. أولهما هي ألاّ يزعج البعض ولا يقاومهم. وعندما لا يصطدمون بأي عائق داخلي أو خارجي، ويرون أن كل شيء يسير على ما يرام، يحلمون بأن "لا بد بأننا شيء مهم، كل الأعداء تبتعد ولا تجرؤ على الظهور". وما أن تبدأ هذه الأفكار، حتى يحضر العدو ويبدأ بتحريك أحلام المجد الباطل التي منها تأتي الثقة بالنفس ونسيان معونة الله، وبالتالي عدم السعي إليها وفقدانها. عندما تصل الأمور إلى هذا الحد، يبدأ العدو بالتسلّط: أي بتحريك الشر من الداخل وبوضع العقبات من الخارج، فيقع ذلك الفقير الواثق بنفسه. هذه الحالات ليست نادرة. أرجو أن تضع هذا أمامك فيما أنت الآن تفكر في تنظيم أمور حياتك، حتى عندما تبدأ حياة جديدة وكل شيء يتقدم بهدوء، لن تبدأ تحلم بنفسك، لكن سوف ترى في هذا كميناً خطراً وضعه العدو فضاعف حذرك وانتباهك. الكمال، الذي لا يظهر إلا قليلاً، يأتي بعد جهد كبير، بعد سنوات وسنوات، وليس من البداية في الأيام الأولى.
من جهة أخرى، يهاجم العدو الآخرين منذ البداية بكل قوته وعنفه، حتى يشعر المبتدئ بالضياع. حيثما يستدير، كل شيء ضده: أفكاره وأحاسيسه، وكل ما في داخله يعوق النوايا الحسنة ولا شيء إيجابي. يقوم العدو بهذا ليرعب المؤمن الجديد منذ البداية، وليحاول إرغامه على التخلي عن نواياه الحسنة والعودة إلى حياة من اللامبالاة وعدم الانتباه. ولكن ما أن يلاحظ العدو أن المؤمن الجديد لن يستسلم بل هو يقاوم، فإنه يتراجع مباشرة. هذا لأن الشجاعة في مقاومة العدو تكسب العاملين الأكاليل وهو لا يريد أن يؤمنها لهم. مهم أن تحفظ هذا في فكرك حتى لا تجبن أمام الضغوطات القوية الناتجة عن العوائق، بل سوف تعرف أنها خديعة من العدو الذي يتراجع ما أن يواجه الثبات.

السلام الداخلي
    أرغب في أن أضيف بعض التعليمات لك حول ما يجدر بك القيام به فيما تدخل الطريق الجديدة.

كلّ مَن قام بمراقبة دقيقة لما يجري في داخله ولو ليوم واحد، يدرك بشكل واضح أن الروح قد سقطت. لقد أخبرتك عن هذا منذ زمن. سوف تتذكر أنّ في داخلنا هذا الاضطراب الذي يأتي بشكل غير شرعي، وبالتالي ينبغي إيقافه. أنتَ أيضاً كتبتَ أنك لم تستطع أن تتتبّع الحركة الداخلية غير المضبوطة. سوف أستعرض وصف هذه الحالة.

أفكار الذهن  موجهة كلها إلى الأرض وليس من سبيل لرفعها إلى السماوات. فحواها عبثية وحسية وخاطئة. أنت رأيت كيف ينزل الضباب على الوادي. هذه صوره دقيقة لأفكارنا فهي تزحف وتلاحق الأرض. إلى هذا الزحف نحو الأسفل، هذه الأفكار تزبد باستمرار ولا تهدأ في مكان واحد، إنّها تصادم بعضها بعضاً مثل سرب من الذباب في الصيف. وفوق هذا إنها دائمة الحركة.
تحت هذه يقع القلب. إن اللطمات المستمرة في القلب مصدرها الأفكار ومنها تنشأ الأعمال. مهما كانت الفكرة فإن عملاً ما للقلب يقابلها ومنها: الفرح، الغضب، الحسد، الخوف، الرجاء، الفخر، اليأس. هذه كلها تنشأ في القلب الواحدة تلو الأخرى. إنها لا تتوقف، تماماً مثل الأفكار لا تسلسُل لها، فيما القلب دائم الارتعاش مثل ورقة الشجر، بسبب المشاعر.

والأمر لا ينتهي هنا. الفكر مع الشعور دائماً يولّدان شهوة أكثر أو أقل قوة. تحت الأفكار المشوشة والمشاعر تقع الشهوات المشوِّشة عشوائياً. هذا شخص مولع بالكَسب، وذاك يبذّر كل شيء. هذا متسامح وذاك نتقم. هذا يهرب من الجميع وذاك يسعى إلى الحشد. وليس فقط أن هذه الأمور تجري على هذا المنوال، لكن الشكوك، الواحد تلو الآخر، تغلي بشكل مستمر في النفس. راقبْ نفسَك مثلاً وأنت جالس في عملك، فسوف ترة كل هذه تجري في داخلك كما على مسرح.

هكذا هو إذاً اضطرابنا الداخلي وتشوشنا. ومنه أيضاً يأتي الاضطراب في حياتنا وهذا الغم الذي يخيم علينا. لا تتوقعْ حياة منتظمة حتى تقضي على هذا الاضطراب الداخلي. فهو بذاته ومن ذاته سبب لكثير من الشر. لكنه سيء بوجه خاص لأن الشياطين يقيمون فيه ويبلبلون الأمور أكثر، موجِّهين كل شيء باتجاه الأسوأ نحو دمارنا.

في مطلع الصوم، تفحصتَ نفسَك وقررتَ اقتلاع بعض الأمور وإضافة أخرى. أنت لا تستطيع إلاّ أن توجّه انتباهك نحو التشوش الداخلي وتتسلح بالحماسة اللازمة ضده. اسمحْ لي مرةً أخرى أن أركّز على العدو الداخلي. إنت حدّدت نية صارمة للعمل من أجل الرب والانتماء إليه وحده ابتداءً من هذه النقطة. سرُّ التوبة أعطاك الغفران في كل شيء وأنتَ ظهرتَ نقيّاً أمام وجه الله. المناولة المقدسة أتَت بك إلى أقرب شركة، أو بالأحرى جدَّدَت شركتَك، مع الرب يسوع المسيح وملأتْكَ بكل قوة نافعة. إذاً ها أنت هنا مهيئاً لهذه المهمة.
لو أنّ التمني يكفي لإصلاح حياتنا الداخلية ولجعل الأمور على أفضل حال، أو لو أنّ كلمة تكفي لتحقيق كل شيء فوراً، لانتفى كلّ سبب يدفعك إلى ولوج هذه المتاعب، ولكان كلّ شيء جرى للأفضل، ولما كنتَ لتشتهيه. في أي حال، قانون الحياة الأخلاقية الحرّة، بالرغم من جوهرها المتأذي، هو في أن هناك مثابرة راسخة. المساعدة النافعة متوفرة، ولكن مع هذا ينبغي بك أن تقسو على نفسك وتجاهد. أن تجاهد مع نفسك قبل كل شيء.

إن حياتنا الداخلية لا تأتي إلى النظام المناسب فجأة. ما هو مطلوب دائماً وما ينتظرنا هو العمل المكثف مع النفس، النفس الداخلية، من خلال تمثل النوايا الحسنة وتفعيل النعمة بالأسرار. هذا العمل وهذا المجهود موجهان نحو تدمير الاضطراب المسيطر في الداخل، وتثبيت الترتيب والتناغم في مكانه. هذا الترتيب والتناغم يتبعهما السلام الداخلي والمزاج القلبي المبتهج بشكل دائم. هذا ما ينتظرك الآن! لا تفكّرْ، على أيّ حال، أن لهذا عليك أن تعيد عمل كل شيء أو ربط نفسك بكثرة من القوانين. لا مطلقاً. قانونان أو ثلاثة، تدبيران وقائيان أو ثلاثة، هي كل ما تحتاجه.

يوجد اضطراب في الداخل وهذا تعرفه من الخبرة. يجب أن تقضي عليه، وهذا ما تريده وقد قررت ذلك. ابدأ مباشرة بإزالة سبب هذا الاضطراب. السبب هو أن روحنا فقدت أساسها الأصلي، الذي هو في الله، وهي تعود إليه مجدداً بتذكر الله. إذاً، الأمر الأول هو هذا: ضروري أن تتعوّد على تذكّر الله بدون انقطاع، إلى جانب خوفه وتوقيره.

لقد كتبت لك عن هذا في المرة الماضية. أنت تعرف السبيل المطلوبة له، وقد بدأت بها، فليكن مباركاً. افتح الطريق لهذا العمل بدون تعويق. كًنْ مع الله، مهما فعلت، ووجّه نحوه كل عقلك، محاولاً أن تتصرّف كما في حضرة ملك. سوف تعتاد على هذا سريعاً، فقط لا تستسلم أو تتوقف. إذا تبِعتَ هذا القانون البسيط بضمير حي، سوف تقهر الاضطراب الداخلي، بالرغم من وجود تمزقات، أحياناً بشكل أفكار تافهة وغير مهمة، وأحياناً أخرى بشكل أحاسيس ورغبات غير مناسبة، سوف تلاحظ هذا الخطأ فوراً وتطرد الضيوف غير المدعوين خارجاً، مسرعاً في كل مرة إلى تجديد وحدة الفكر المتعلّق بالرب الواحد.
فليلهمْك الله! باشر بهذا بحماسة أكبر، تابع بدون تقطّع، وسوف تبلغ مقصدك قريباً. الاهتمام الوقور بالله الواحد سوف يتوطّد ومعه سوف يأتي السلام الداخلي. أقول أنه سوف يكون قريباً لكن سوف يستغرق أكثر من يوم أو اثنين. هذه الأمور تتطلب ربما بعض الأشهر، وأحياناً يستغرق سنين. أطلبْ من الرب وهو نفسه يعينك.

وللمساعدة، أضِفْ القانون التالي: لا تَقُمْ بأي عمل يعارضه ضميرك، ولا تتوانى عن أي شيء يقوله لَكَ كبيراً كان أو صغيراً. الضمير هو دائماً دليلنا الأخلاقي. الأفكار التي تقيم في الذهن، كما العواطف والرغبات التي فينا تؤدي بنا إلى نزوات غير لائقة. هذا سببه، بشكل طارئ، أن ضميرنا فقد قوته. أعِدْه قوياً وأظهِرْ طاعةً كاملةً له. لقد ثقّفتَه الآن عن طريق معرفة ما يصحُّ فعلُه وما لا يصح. اتبعه بدون تحوّل، وبهذه المواظبة تسمح لنفسك بالقيام بأي شيء ضده حتى ولو أدّى ذلك إلى موتك. بقدر ما تكون قاطعاً في تصرفاتك، يصبح ضميرك أكثر قوة. وبقدر ما يصبح ضميرك قوياً، يلهمك في ما هو ضروري بشكل أكثر كمالاً وأكثر قوة، ويقودك بعيداً عن غير النافع من الأقوال والأفعال والأفكار، ويصبح داخلك مرتباً بسرعة أكبر. إن الضمير الذي يتذكر الله بتوقير هو نبع الحياة الروحية الحقيقية. تذكّر كلامنا عن الروح في بداية مراسلاتنا.

ليس مطلوباً أي شيء سوى هذين القانونين. فقط غذِّهما بالصبر. لن يأتي النجاح فجأة، يجب أن تننتظر وتكدح بثبات. يجب أن تكدح وأهمّ من ذلك لا تستسلم لإرضاء نفسك أو العالم. سوف يكون هناك مقاومة مستمرّة لِما قد بدأت. يجب أن تتخطّى ذلك، يجب أن تبذل بعض القوة وبالتالي أن تصبر. ألبِسْ نفسَك هذا الدرع الكلي القوة ولا تترك معنوياتك تهبط عندما تعترضك المحنة. كل شيء سوف يأتي مع الوقت. تشجّع بصبرك في هذا الرجاء. إن خبرات كل الذين سعوا إلى الخلاص وحقّقوه تحما أن هذا ما سوف يحدث.
إذاً، هذا كل شيء. تذكّرْ الله بتوقير، أطِعْ ضميرَك، وتسلَّحْ بالرجاء من طريق الصبر. ليباركك الرب حتى تنحو إلى هذا الفكر وتكون فيه.

ضبط النفس على إيقاع الحياة الروحية
ماذا جرى لكِ؟ أي نوع من الأسئلة هو هذه: "لا أعرف ماذا أفعل بحياتي. أعلى الإنسان أن يفعل شيئاً؟ أعلى الإنسان أن يضع لنفسه هدفاً؟" فيما كنت أقرأ، لم أستطع أن أكتشف مصدر هذه الأفكار الغريبة. أما كنتِ قد قررتِ كل هذه الأمور عندما عبّرتِ عن الرغبة في الوصول إلى تلك الكرامة العليا التي حدّدها الله للإنسان؟ وما الذي نناقشه، أنتِ وأنا، غير ذلك؟ كيف إذاً نشأت كل هذه الأمور؟ أنا أتخيّل أنّ هناك تحرريون[7] بين معارفك، أو أنك في مناسبة ما التقيتِ مجموعة من الأشخاص الذين ينشرون "كلماتهم الحكيمة". إنهم عادةً يهذون بهذه الطريقة. وتتردد على لسانهم وبدون توقف الكلمات: "خير الجنس البشري"، "خير الشعب" وغيرها. والآن أنتِ، على الأرجح، استمعتِ للكثير من هذه الأفكار الرفيعة، فاستسلمتِ لها، واستدرتِ لتنظري إلى حياتك الحاضرة فاكتشفتِ بندم أنكِ تحيين حياة  كسل وخمول في عائلتك وبين أقربائك وبدون هدف. واحسرتاه! كيف أن أحداً لم يفتح عينيك بعد؟
إذا كان تقديري صحيحاً، فعليكِ أن تخجلي. لماذا لم تخبريني عن هذا، مع أنك أعطيتِ كلمتك بالكتابة لي عن شيء بصراحة؟ ولكن سواء كان الأمر هكذا أم لا، لا أستطيع أن أترك مشاكلك بلا حل. كل مراسلاتنا تخدم كحلّ متكامل لها، لكني الآن سوف أعبّر فقط عن فكرة قصيرة وعامة، حتى تري أن حياتك كما عشتِها وتعيشينها إلى الآن، هي حياة حقيقية، ولا حاجة لتغيير أي شيء فيها.
بالتأكيد، يجب أن يعرف الإنسان هدف الحياة. لكن هل هذا صعب؟ ألم يُحدَّد هذا مُسبَقاً؟ الوضع بشكل عام هو هذا: بما أنه يوجد حياة بعد الموت، إذاً، هدف كل حياتنا الأرضية هذه، يجب أن يكون، بدون استثناء، ليس هنا إنما هناك. كل واحد يعرف أن هذه هي الحالة، وليس هناك أكثر من هذا للمناقشة، مع أن بالممارسة قليلون جداً  يتذكرون هذا. لكن ضعي لنفسِكِ قانوناً للحياة، واسعي بكل قوتك لتحقيق هذا الهدف، وسوف ترين بنفسك أي ضوء سوف يفيض منه على حياتك الحاضرة على الأرض وعلى كلِ ما تعملين. أولاً سوف تُكشَف القناعة بأن كل شيء هنا هو وسيلة للحياة الثانية. هناك ناموس يتعلّق بالوسيلة: استعمليها وبطريقة تؤدي إلى الهدف ولا تحيدي عنه أو تعوّقيه. هذا إذاً هو الجواب على مسألة عدم معرفة ما تفعلين بحياتِك. ركّزي نظرَكِ على السماوات ووجّهي كل خطوة من حياتك لتكون خطوة في هذا الاتجاه. يبدو لي أنّ كل شيء بسيط، ومع هذا فهو كثير الضغط.

أنتِ تسألين: "أيجب أن يفعل الإنسان شيئاً ما؟" طبعاً يجب. اصنعي أي شيء مما ينجح في دائرة أصدقائك ومحيطك وآمني أن هذا هو عملك الحقيقي، وسوف يكون. لن يكون مطلوباً منكِ أكثر من ذلك. ما يعتقد به التحرريون من أن على الإنسان "أن يضع علامته على الإنسانية"، أي أن يقوم بمهمات عظيمة وذات صدى كبير، هو اعتقاد خاطئ. إنه اعتقاد خاطئ بشكل كبير، حتى لو كان من أجل الملكوت. يكفي فقط أن نعمل كل شيء بحسب وصايا الله. ماذا بالتحديد؟ لا شيء محدد، فقط هذه الأشياء التي تظهر للإنسان في ظروف حياته، هذه الأشياء التي تفرضها الحوادث اليومية في حياتنا. لنأخذ مثلاً أن متسولاً أتى إليكِ. إن الله هو الذي أرسله. بالطبع الله أرسل المتسول إليكِ راغباً منكِ أن تعامليه بالطريقة التي ترضيه، وهو يراقبكِ ليرى ما تفعلين بالواقع. سوف يكون راضياً إذا ساعدتِ. فهل سوف تساعدين؟ إذا قمتِ بما هو مرضي لله، تكونين قد أنجزتِ خطوة نحو الهدف الأعلى أي ميراث الملكوت. عمّمي هذه الحادثة وسوف تجدين أن في كل وضع وعند كل لقاء، يجب على الإنسان أن يعمل ما يريده الله منه، ونحن نعلم حقاً ما يريده من الوصايا التي أعطانا. إذا احتاج إنسان إلى مساعدة فساعديه. إذا أساء إليكِ أحد فسامحيه. إذا أنتِ أسأتِ إلى أحد فأسرعي إلى طلب المغفرة وصنع السلام. إذا مدحَكِ أحد فلا تفتخري. إذا وبّخَكِ أحد فلا تغضبي. إذا أتى وقت الصلاة فصلّي. أن تعملي هو أن تعمّلي.

إذا أخذتِ كل هذا بعين الاعتبار، تكونين قد بدأتِ بالعمل في كل الأوضاع حتى تأتي تصرفاتك، التي تنفذينها بدون انحراف عن الوصايا، مرضية لله، وعندها تنحلّ كل المشاكل المتعلّقة بحياتِك كلياً بشكل مرضٍ. الهدف هو الحياة المبارَكة بعد القبر. الوسائل هي الأعمال بحسب الوصايا: الأعمال المطلوبة من كل شيء يمر في حياتِك. يبدو لي أن هذا واضح جداً وبسيط وليس من سبب لديكِ لتعذّبي نفسَك بمسائل صعبة. يجب أن تُخرجي من رأسِك كل المشاريع المتعلّقة بالعمل الإنساني "الكثير النفع" الذي ينظّر حوله التحرريون. عندئذ سوف تتركّز حياتك إذا وضعتِها في إطار سلامي ووجَّهتِها بدون اضطراب نحو الهدف الأساسي. تذكّري أن الرب لا ينسى كأس ماء بارد أُعطي لعطشان.

سوف تقولين: "لكن كل الأمور متشابهة، على الإنسان أن يختار ويحدّد طريقة حياة!". ولكن كيف لكِ أن تحدّديها؟ عندما نبدأ بالتفكير بها يكبر شكّنا. من الأفضل والأسلم أن نقبل بطاعة وشكر ومحبة، الاتجاه الذي يكشفه لنا الله في مجرى حياتنا. لنأخذ وضعاً يهمك. أنتِ الآن تحت سقف والديك في أمان وراحة. ولكن افعلي كل ما عليك فعله بضمير حي. تقولين: "لكن كل الأمور متشابهة. تصوّر، لا يستطيع الإنسان أن يبقى كذلك إلى الأبد. في آخر الأمر، حياته الشخصيّة يجب أن تبدأ. على أي درجة من البلاء هذا يحدث؟ وكيف للإنسان أن يتلافى التفكير فيه؟" حسناً، هذه هي أفضل فكرة في كل هذا الخط. ضعي نفسك في يدي الله وصلّي كي يقودك إلى ما هو الأفضل عنده، حتى لا تتعرقل حصتك من الحياة، بل بالأحرى تساعدك على الوصول إلى الحياة المباركة بعد القبر بدون أن تحلمي بقَدَر لامع. وعندما تضبطين نفسك هكذا، انتظري بصبر وفي آخر المطاف يعطيكِ الرب التعليمات. وهو سوف يرشدكِ من خلال ترابط الظروف وعِبرَ إرادة أهلِك. وإذ تثبتين في هذه الأفكار وترتاحين بالله، اسلكي بدون أن تبني مشاريع فارغة واعمَلي هذه الأشياء التي تتطلبها منك علاقتك بأهلِك وإخوتِك وأخواتك وكل أقربائك وكل البشر. لكن لا تفكّري، ولا بأي طريقة، بأن هذه الحياة فارغة. كلّ ما تفعلينه بحسب هذا القانون سوف يكون عملاً حقيقياً، وإذا تصرّفتِ على أساس أن هذه هي طريقة صنع الأمور بحسب الوصايا، وأن الله يريدها هكذا، سوف يكون عملك مرضياً لله. وعلى منوال مماثل، عامِلي كل شيء مهما كان صغيراً.

يبدو أنني الآن قد شرحت كل شيء. سوف أضيف تمنياً بأن تغوصي جيداً إلى أعماق ما كتبتُ، وتتعلميه قلبياً وتكيّفي نفسَك معه. أستطيع أن أتنبأ أنّك سوف تكتسبين سلاماً كاملاً ولن تشوّشك الأفكار من بعدها. "حياتي لا تساوي شيئاً، أنا لا أقوم بشيء نافع"، وغيرها. سوف يبقى عليك فقط أن تمارسي ضبط القلب وإلاّ سوف يثرثر كثيراً بلا معنى. صحيح أنه أن نكون بلا قلب هو أمر سيء إذ حيث لا قلب، أي نوع من الحياة يكون هناك؟ ولكن أيضاً، على الشكل نفسه، يجب أن لا نترك القلب على طريقه. إنه أعمى وبدون توجيه صارم يضيّع خطاه مباشرةً.
فليباركْك الله.

الصلاة القلبية
لقد كانت ضيفتك على خطأ في تفكيرها. مَن ليس عنده الصلاة القلبيّة هو بلا صلاة، إذ إن الصلاة القلبيّة وحدها هي الصلاة الحقيقيّة المقبولة عند الله والمرضيّة له. إنها تشكل روح الصلاة الفرديّة والجماعيّة في الكنيسة. إذا فقدها شخص ما، لا يبقى له إلاّ شِبه الصلاة ولكن ليس حوهرها.
ما هي الصلاة أصلاً؟ إنّها رفع الفكر والقلب إلى الله للمدح والشكر والتضرّع إليه من أجل الأمور الضروريّة للنفس والجسد. جوهر الصلاة إذاً هو الصعود العقلي إلى الله في القلب. يقف الفكر في القلب بشكل واعٍ أمام وجه الله وممتلئاً بالوقار المناسب والضروري فيبدأ بسكب القلب أمامه. هذه هي صلاة القلب. وهذا ما يجب أن ينطبق على كل الصلوات. قراءة الصلوات، سواء في البيت أم في الكنيسة، تعطينا فقط الكلمات والشكل. كل إنسان يحمل في داخل نفسه، في قلبه وفي فكره، نفس الصلاة أو جوهرها. كل ترتيب الصلوات في كنيستنا، وكل الصلوات الموضوعة للممارسة في البيت، تُقام بفكر متجه إلى الله. في القيام بهذه الصلوات، حتّى مع الحد الأدنى من الانتباه، لا يستطيع المرء تحاشي هذه الشركة العقلية مع الله، إلاّ إذا كان فاقد الوعي كلياً لما يقوم به. لا أحد يُوَفَّق إلى إنجاز أي شيء من غير صلاة القلب. نحن لا نقدر على الصعود إلى الله إلاّ من خلال الصلاة القلبيّة، لأن طبيعتنا الروحيّة تطلب ذلك. ونحن لا نستطيع أن نُتِّم هذا الأمر إلاّ من خلال العقل، لأن الله عقل. صحيح، هناك صلاة فكريّة يُنطَق بها، نقوم بها في الكنيسة أو في البيت. لكن هناك أيضاً صلاة عقلية ليس لها شكل خارجي ولا شرط منظور. جوهر هذه وتلك هو نفسه. كلا الصلاتين ضرورية أيضاً للعائشين في العالم. لقد أوصى المخلّص: "أدخل إلى مخدعِك وصَلِّ هناك إلى أبيك في السر". هذا المخدع، بحسب تفسير القديس ديمتري روستوف، يعني القلب. بالتالي وصية الرب تجبرنا على الصلاة إلى الله سريّاً، بفكر القلب. هذه الوصية تعني كل المسيحيين. ما الذي يوصي به الرسول بولس عندما يقول بوجوب أن نصلي بلا انقطاع بكل الصلوات والتضرعات في الروح (أفسس 18:6)؟ إنّه يدعونا إلى صلاة القلب، الصلاة الروحيّة، ويوجّه دعوته إلى كل المسيحيين بدون تمييز. في النهاية، إنه يدعو كل المسيحيين إلى الصلاة بدون انقطاع (1 تسالونيكي 17:5). لكن الصلاة بدون انقطاع ممكنة فقط من خلال صلاة القلب. هذا يعني أن صلاة القلب ضرورية لكل المسيحيين، وإذا كانت ضرورية فلا يمكن لأحد أن يقول أنها مستحيلة، لأن الله لا يطلب المستحيل. صحيح أنها صعبة لكن من الخطأ القول باستحالتها. في النهاية، كل ما هو صالح صعب، وأكثر ما ينطبق هذا الكلام على الصلاة التي هي لنا مصدر كل خير وكل دعم ثابت.

قد يسأل البعض: كيف يتم هذا؟ ببساطة: اكتسبي خوف الله. فخوف الله، كشعور، سوف يجلب الانتباه والإدراك إلى القلب، وكخوف، سوف يجبر الانتباه والإدراك على الوقوف في القلب بتوقير أمام الله. هنا الوقوف العقلي، هنا الصلاة العقلية. بقدر ما يكون خوف الله في القلب، يلازم هذا الوقوف العقلي القلبَ. هذه هي الوسيلة الفاعلة لاكتساب صلاة القلب.

لكن قد يتساءل البعض: ماذا عن النشاطات التي تَصرِف الانتباه؟ إنها لن تصرفه: فقط اكتسبي خوف الله. ليست الأشياء والنشاطات مَن يشوّش على الوقوف في حضرة الله وتَذَكُّره، بل الانشغالات العقيمة. ضعي جانباً كل ما هو فارغ وسيء، واتركي فقط ما هو ضروري لا بحسب العالم بل بحسب الإنجيل وسوف ترين أن تحقيق هذه العهود، ليس فقط لا يصرف عن الله، بل على العكس، يوجّه العقل والقلب نحوه. عند نهوضك من النوم صباحاً، قفي بورع أمام الله في قلبك، في صلاتك الصباحية، ومن ثم ابدئي عملَك الذي حدّده الرب لكِ، بدون أن تبتعد أحاسيسك وإدراكك عن الله. وبذلك سوف تنهين عملك بقوى نفسك وقوى جسدك، فيما أنتِ تقفين أمام الله بفكرك وقلبك.

من الخطأ أن تفتكري، كما يفعل البعض، أن صلاة القلب تتطلب من الإنسان أن يجلس في مكان ما مختبئاً بعيداً وبهذا يعاين الله. ليس من مكان يتوارى فيه المصلّي إلاّ القلب. وبعد أن ترسخ نفسك هناك، ابحثي عن الرب أمامك، وكأنه عن يمينك كما فعل الملك داود. يقولون أن الوحدة نافعة في تحقيق صلاة القلب، فكيف للعائشين في العالم أن يجدوا الوحدة وهم دائماً منشغلون بعمل ما، ودائماً يصادفون المشاكل. صحيح أن الوحدة ضرورية في وقت الصلاة القلبية. لكن هناك نوعان من الوحدة: وحدة كاملة وثابتة فيها يمضي الإنسان إلى الصحراء ويعيش وحيداً، والأخرى هي شخصية آنيّة. الأولى، بالطبع، لا تناسب العلمانيين، لكن الثانية، ليست فقط ممكنة لهم، بل هم يملكونها. كل شخص يكون لبعض الوقت خلال النهار وحيداً، حتى ولو لم يخطط عن قصد لفترة من الوحدة. ويمكنه أن يستعمل هذا الوقت لينمّي في نفسه الصلاة القلبية ويقويها ويفعّلها. بالتالي، ما من أحد يستطيع أن يعطي حجة أنه يفتقد الشروط المناسبة للصلاة القلبية. جِدي هذا الوقت وانسحبي إلى داخل نفسك. ضعي جانباً كل همومك، قفي عقلياً في قلبك أمام الله واسكبي روحك قدامه.

في أي حال، إلى جانب الوحدة الخارجية وحدة داخلية. كل إنسان اختبر أنه عندما يكون في حالة من ألم القلب لسبب ما، حتى ولو وجد نفسه مع أمرح الأصحاب، فهو لا يسمع شيئاً ولا يرى شيئاً، بل على العكس يجلس وحيداً في قلبه. إذا كان هذا الأمر صحيحاً في الاهتمامات الأرضية، فلماذا لا يكون ممكناً أيضاً في الحياة الروحية؟ حين يُصاب شخص ما بألم القلب من هذه الحياة العالمية، ما الذي يمكن أن يمنعه عن إمعان النظر في هذا الألم في وحدة قلبه؟ يتبع أن الإنسان بحاجة فقط إلى أن يرسّخ هذه الوحدة الداخلية لكي يكون وحيداً، وألاّ يبقى بعيداً من هذه الوحدة. اختبري خوف الله وسوف تختبرين أكثر آلام القلب سحقاً وهو سوف يبقي الانتباه والشعور عند النصيب الصالح. بهذه الطريقة سوف نأتي أمام الله، نقف قدام وجهه. هنا إذاً تكون الوحدة!
يبقى هناك أيضاً عائق آخر، إذ في مباشرة الصلاة القلبية يجب أن يكون لديكِ دليل. أين يجد العلماني دليلاً؟ هناك، في العالم بين الآباء الروحيين وحتى بين العلمانيين. صحيح أن عدد الذين يمكن العودة إليهم بثقة للاستشارة يتناقص، لكنهم دائماً موجودون وسوف يبقون، وكل مَن يرغب بإيجادهم سوف ينجح برحمة الله. الحياة الروحية هي حياة في الله، والله يظهر اهتماماً خاصاً بأولئك الذين يسعون إليه. فقط كوني غيورة وسوف تجدين كل ما هو ضروري بقربك.
سواء أرادها العلمانيون أم لا، لا سبب عندهم لتجنب الصلاة القلبية. فليباشروها ويتعلّموا.

إصلاح القلب
كأبناء للسقوط حُبل بنا بالآثام وأبصرنا النور بطبائع فاسدة، نحن نولد مجدداً في جرن المعمودية إلى حياة القداسة. إذاً، إذا كان أحدٌ لا يستطيع أن يفتخر بأنه بلا دنس وبلا خطيئة، وفي الوقت نفسه لا يقدر، من دون أن يخالف ضميره،  أن يرفض المهمة المقدسة التي هي تقديم نفسه لله كقديس، فما الذي يتوجّب عليه أن يضيئه ويحمّيه في قلبه غير التصميم الملهّم نحو تحسين الذات والغيرة الإلهية لتطهير القلب من كل شيء لا يرضي الله؟ إن تربية النفس في ما هو مقدس عمل صعب ومعقد جداً. إن الطريق إلى البِر تمر عبر تقاطعات مخفية كثيرة، وكل مَن يباشر بالنسك المطلوب لتغيير الذات، يجب أن يضع بدون خطأ رسماً تصميمياً مبدئياً في فكره لما هو صحيح ولكيفية عمله. يجب عليه أن يحمل هذا البيان في فكره وقلبه بشكل ثابت حتى، باستعماله هذا الرسم كدليل صادق، يستطيع بدون تعويق وبثقة أكبر أن يوصل مهمته إلى نهاية ناجحة.

إذاً، ما معنى أنه يجب أن نصلح أنفسنا؟ تقريباً كل ما يتعلّق بهذا الأمر هو في داخلنا. الخطيئة تحب الاستبداد. إذا وجدَت مكاناً في قلبنا، فهي تسيطر وتنشر قوى الشر في كياننا، إذ إن الإنسان الخاطئ والبشرية الخاطئة هي الأمر نفسه. كل شخص قادر أن يثبت بسهولة هذا الأمر لنفسه عن طريق امتحان قلبه الخاطئ عن كثب. وهناك سوف يكتشف لب الشر، بذرة الخطيئة، وكيف تظهر نفسها عندما تطفو.

إن بذور كل الشر الأخلاقي هي محبة الذات التي تكمن في أعماق القلب. إن الإنسان، بحسب دعوته، يجب أن يتناسى نفسه وحياته ونشاطاته وأن يحيا فقط لله والآخرين مكرساً كل ما يصنع رافعاً عمله كضحيّة شكريّة للإله المخلّص. يجب أن يقدّم حياته وكل عمله بشكل كامل لخير إخوته، وينشر فوقهم كل ما يتلقى من الجوّاد أي من الله. إن الإنسان غير موجود بدون الآخر إذ إن محبة الله مستحيلة بدون محبة القريب، كما أن محبة القريب بدون محبة الله مستحيلة. على المنوال نفسه، بمحبة الله والقريب، من المستحيل عدم تقديم الذات ضحيةً لمجد الله وخير الآخَر. إنما عندما يفصل أحد ما نفسه عن الله، بأفكاره وقلبه وشهواته، وبالتالي يفصل نفسه عن أخيه، طبيعي أن يسلك بحسب نفسه فقط. "أناه" تصبح المركز الذي يوجّه نحوه كل ما عدا ذلك، إلى درجة إهمال الوصايا الإلهية وخير الآخرين.

هنا إذاً، هو جذر الخطيئة. هنا هو بذر كل الشر الأخلاقي. إنه يخفي نفسه عميقاً داخل القلب إلى أن ينمو وينتشر ويطفو على الوجه ظاهراً في ثلاثة أشكال، ثلاث فروع، هي: رفع الذات، الاهتمام بها، ومحبة اللذة. الأولى تقود الإنسان إلى أن يقول في قلبه: "أنا الرقم واحد"، الثانية تقوده إلى القول: "أريد أن أملك كل شيء"، والثالثة: "أريد أن أحيا لمتعتي".

"أنا الرقم واحد". أيُّ نفس لم تختبر هذه الفكرة؟ أليس فقط أولئك الذين بطبيعتهم عندهم مواهب فائقة، أو الذين حققوا شيئاً مهماً أو نافعاً، هم معرّضون لرفع أنفسهم فكرياً فوق إخوتهم من البشر؟ رفع الذات موجود في كل العصور والمستويات والظروف. إنه يظلل المرء في كل مراحل الكمال الفكرية والأخلاقية ولا يقوم على أي شرط خارجي. حتى لو كان المرء وحيداً معتزلاً بعيداً جداً عن الجميع، فهو ليس متحرراً أبداً من تجربة رفع الذات. لقد بدأ الإنسان يرفع نفسه فوق إخوته المخلوقين من لحظة تلقيه أول اقتراح متملق من الحية: "كونوا مثل الله". وكإله، بدأ بوضع نفسه فوق الموقع الذي وضعته فيه الطبيعة والمجتمع. هذا مرض كل منا وهو عندنا جميعاً. قد لا يبدو خطيراً أن يُطلق المرء لنفسه عنانها في التفكير بأنه أرفع من غيره. لكن أنظر فقط كم من الشر وكم من الظلمة ينشأ من هذه الفكرة التي تبدو لنا ظاهرياً بلا قيمة.

إن مَن يرفع نفسه فوق الآخرين في فكره وقلبه، يباشر أعماله بحسب صوت المنطق والضمير وليس بحسب مشورة الحكمة أي كلمة الله. إنه يباشرها بحسب فهمه لأنه يرغب بذلك. فهو يتشبث بنفسه ويثق بها. إذا نجح في عملٍ ما فيعزو ذلك لنفسه فقط. هذا يجعله متعالياً، مغروراً، مدّعياً، وعديم الشكر في علاقاته مع الآخرين. فهو يريد تنفيذ مشيئته في كل شيء وكل وقت. إنه يريد كل شيء تحت سيطرته إذ إنه يحب أن يمارس السلطة وينحو إلى أن يكون مستبداً. في علاقاته مع الآخرين، لا يستطيع أن يتحمَّل تقدمهم مهما يكن صغيراً. إنه مزدرٍ وصعب المراس. عند كل مخالفة لرأيه، يتمسك به ويشتعل بالثأر. إن كانت شخصيته قوية فهو يتعطش للمجد والشرف، وإذا كانت ضعيفة فهو ماكر ومحب للمجد الباطل. إنه وقح وصاحب نزوات، متغطرس وميّال نحو القيل والقال.

هذه هي إذاً الأشكال المتعددة التي يظهر بها حب النفس، والحركات الخاطئة الكثيرة التي تتكوّن منه. ويندر مَن لا يدين نفسه بهذه الخطيئة بهذا الشكل أو ذاك.

"أريد كل شيء لي". هكذا يقول الرجل الطمّاع. هذه هي النبتة الثانية من جذر الشر. إن أكثر ما يظهره بوضوح هو روح محبة الذات التي تفعل كنوع من وجود مستقل. لا يقول الرجل الطمّاع كلمة أو يخطو خطوة أو يقوم بحركة إن لم تكن تجلب له بعض المنفعة. كل ما يتعلق به خاضع للحسابات. كل شيء منظم. كل الأشياء مترابطة بطريقة يصبح فيها الوقت والمكان والأشياء والأشخاص، وباختصار كل ما يلامسه ياليدين أو بالفكر، حاملاً ما يقدمه لخزائنه. الربح الشخصي هو المحرك الأساسي الذي يهيج كيانه إلى التصرف، وتحت تأثيره هو مستعد لتحويل كل شيء إلى وسيلة لتحقيق مبتغياته: فهو قد يسعى إلى أعلى مراتب الشرف إذا كان هذا نافعاً، وقد يقبل أكثر الوظائف صعوبةً إذا كانت أكثر مردوداً من غيرها، وقد يقنع نفسه بتحمل كل الصعوبات، فلا يأكل ولا يشرب، إذا كان هذا يحقق له الربح. إنه جشع، محب للتمسك ولاذع، ولا يصبح قادراً على محبة الفخامة والرفاهية إلا تحت التأثير القوي للمجد الباطل. ممتلكاته أحب إليه من الحياة نفسها ومن الناس ومن الوصايا الإلهية. إن روحه مقيدة بالأشياء، حتى أنه يعيش من خلالها وليس من نفسه. إذاً هنا، قوة تأثير ثمرة بذور الشر الثانية وعالمه: محبة الذات. ومَن هو الذي ليس لديه بعض الأمور التي يؤلمه الانفصال عنها، كما يؤلمه الانفصال عن السعادة؟

"أريد أن أحيا لمتعتي"، يقول الرجل الشهواني. نفسه غائصة في الجسد والمشاعر. إنه لا يفتكر بالملكوت ولا بالحاجات الروحية وبمتطلبات الضمير والمسؤولية، لأنه لا يريد ذلك ولا يقدر أن يفتكر به (روما7:8). خبرته محدودة بأشكال متنوعة من المتع ولا يستطيع التخلص منها. إنها تشغل أفكاره ومحادثاته.
إذا بدأ الرجل الشهواني بإرضاء ذوقه، فهو يصبح أبيقورياً. تلاعب الألوان يحرّك ذوقه للباس الأنيق، تنوّع الأصوات يوحي له بالهذر، الحاجة للطعام تقوده إلى النهم، الحاجة إلى حماية النفس تقوده إلى الكسل، والحاجات الأخرى إلى الانغماس في اللذات. صاحب النفس المستعبَد للحمه، بارتباطه بالطبيعة من خلال الجسد، يشرب منها اللذات بطرق كثيرة بعدد وظائف جسده. وإلى جانب هذه اللذات، ومعها، يمتص روح الطبيعة الجوهرية، روح التصرف الآلي غير المقصود. بالنتيجة، بقدر ما يطلق الإنسان العنان لتكريم ذاته، تصبح دائرة حريته أكثر محدودية. وكل مَن يعطي سلطة مطلقة لهكذا انغماس، يصبح سجيناً كاملاً عند جسده.

هكذا إذاً ينمو الشر في داخلنا من بذرة ضئيلة بالغة الصِغَر. في أعماق القلب، كما رأينا، تكمن بذرة الشر أي محبة الذات. منها ينبع ثلاث فروع أو ثلاث أشكال يحمل كل منها قوة البذرة: أهمية الذات، الاهتمام بالذات، والشهوانية. وهذه الثلاثة تولّد كثرةً لا تُحصى من الأهواء والميول الخاطئة. تماماً كما ينمو جذع الشجرة الرئيسي إلى أعضاء كثيرة، هكذا أيضاً تنمو في داخلنا شجرة كاملة، في البداية يكون جذرها في القلب ولاحقاً تنتشر في كل جسدنا وتتسرب إلى الخارج وتشغل كل ما يحيط بنا. قد يقول البعض أن مثل هذه الشجرة موجود في داخل كل إنسان لأنّ في قلبه ميل إلى الخطيئة. الفرق الوحيد هو أن الغصن في هذا الشخص نامٍ، والغصن في ذاك أكثر نمواً، وفي غيره غصن من نوع آخر.

لماذا، في أغلب الأوقات، لا نلاحظ هذا في أنفسنا، حتى أننا نفتكر أو نتساءل: "ماذا فعلتُ؟" أو "ما هو السيئ فيّ؟" نحن لا نلاحظ لأننا لا نستطيع أن نلاحظ. الخطيئة لا تسمح لنا. إنها ماكرة وبعيدة النظر. إذا تقدمت شجرة الشر التي وصفناها ظاهرة لعين العقل، فالكل سوف يشمئز تلقائياً. لهذا السبب تسرع الخطيئة في إلباس الشجرة بالأوراق، لتغطية بشاعتها، بطريقة تمنع النفس التي تنمو فيها الشجرة من تمييز الجذور أو الجذع ولا حتى الأغصان. هذه الأغطية المورقة هي: الارتباك والإفراط في الاهتمامات العالمية.

لا يرغب الشخص المشغول بالإمعان في النظر إلى نفسه. لا يملك المشغول بالاهتمامات العالمية دقيقة فراغ. فهذا لا يستطيع أن يلاحظ ما يجري في نفسه، وذاك لا وقت لديه. ما أن ينهض من النوم حتى تسرع نفسه إلى خارج ذاتها. ففي حالة الأول تمضي نفسه إلى عالم من أحلام النهار. وفي حالة الأخير تغوص في بحر من الأعمال الضرورية ظاهرياً. الحاضر ليس موجوداً لديهما، وهذا ما يميز عملهما بشكل رئيسي. الأول يفضّل العيش في عالم صنعه لنفسه لا يلامس الواقع إلا جزئياً وبدون قصد وبشكل سطحي. أمّا الثاني فهو، في قلبه وفكره، يعيش في المستقبل. فهو يحاول أن ينهي كل ما يفعله بأسرع ما يمكن حتى ينتقل إلى العمل التالي، فيبدؤه وينهيه ليسرع إلى عمل ثالث. غالباً، وحدها يداه ورجلاه ولسانه مشغولة بالحاضر، بينما أفكاره كلها موجهة إلى المستقبل. في هذه الحالة، كيف لهؤلاء الناس أن يكشفوا ما هو مخفي في القلب؟

في أي حال، لا تكتفي الخطيئة بهذا الغطاء المورق وحده، لأنه لا يمنع الاختراق. إذ ممكن أن تضع رياحُ البلية الأوراقَ جانباً بالاهتزازات التي يسببها الضمير، وبالتالي تكشف شكل الشجرة المغاير للطبيعة. إذاً، تخلق الخطيئة من نفسها نوعاً من الغطاء العازل الذي يشبه المياه الراكدة المظلمة التي تغطس فيها الشجرة مع أوراقها. يتألف هذا الغطاء من الجهل وعدم الحس والإهمال. نحن لا نعرف الخطر الذي يهددنا وبالتالي نحن لا نعلم بوجوده، ولأننا نجهل وجوده نحن نستسلم للإهمال.

هذا إجمالاً هو كل ما علينا أن نغيّره في ذواتنا. هذا هو حقل العمل في النسك المقدس لتغيير الذات. علينا أن نعرّي الخطيئة من غطائها وأن نطرد من أنفسنا الإهمال وعدم الحس وخداع الذات والتمزق والانشغال الزائد. علينا أن نقطع أغصانها أي كل الأهواء والميول الشهوانية. بالنهاية علينا أن نقتلع جذرها الأساسي عن طريق طرد محبة الذات خارجاً. كيف؟ بإنكار الذات. هذا العمل ليس صغيراً ولا سهلاً. الدناسة الخاطئة الموصوفة سابقاً لا تغطي النفس كغبار يذريه الريح. لا، لقد تغلغلت في كياننا وطعّمت نفسنا وصارت جزءً منا. لهذا السبب، تحرير النفس منها مساوٍ لفصل النفس عن نفسها، أو اقتلاع عين أو قطع يد. هذه الصعوبة، مهما كانت، يجب أن لا تغمرنا. بالأحرى قد ترفعنا من إهمالنا. مَن يشتهي الخلاص بصدق، لا ينظر إلى معوقات هدفه. إنها تقوده فقط إلى أن يكون أكثر رسوخاً في الإيمان، وأن يبدأ العمل بتصميم أكبر ويباشر بعملية تغيير الذات الخلاصية بحماس أكبر.

الطريق العسر والضيق
كثيراً ما نسمع الناس يقولون: "الرب عند خلقه الإنسان، أدخله إلى الفردوس وأمّن له كل شيء ليتمتع به". بعد السقوط، وبالرغم من أن الإنسان طُرد من الفردوس، إلاّ إن قدرته على التلذذ بقيت: الأزهار قدمت متعة الشم، الثمار قدمت الطعم الطيب، السماء بنجومها قدمت لذة النظر، غناء الطيور حمل جمال السمع. بعدئذ، في السياق نفسه، اخترع الإنسان الموسيقى. كل ما في الطبيعة يتحدث عن صلاح الله الخالق. وبالرغم من إرادة الله الفاضلة، هناك مَن يريدون أن يضعوا العوائق والقيود في كل مكان. إنهم ينتهكون الطبيعة، يتطاولون على الله، ويقدّمون صورة مشوهة عنه.

إنها حالة مزرية بالحقيقة! لقد كتبتُ لكِ في رسالتي الأخيرة أن العلمانيين، إذا أرادوا أن يكونوا مسيحيين حقيقيين، يجب ألاّ ينقبضوا من الصراحة الرهبانية. وفي ما كتبت، ظننت أني أقنعتك وأن كل ارتباكاتك قد تبددت. ولكن أي لخبطة عندنا هنا؟ لماذا وضعتِ نفسَك في هذه الورطة، وكأن الحقيقة إلى جانبهم؟ عليكِ أن تقولي لهم: "استمروا يا أصدقائي وامرحوا وتلهّوا، افتحوا أبواب اللذة واسعة وانتَشوا وعربدوا في مأدبة هذه الحياة... لا أحد يمنعكم، ولا أحد يضع أي حاجز في طريقكم. عيشوا كما تريدون. لقد أُخبِرتُم، بكلمات السيد، أن هناك طريقين لبني البشر: الطريق الضيق والطريق الواسع، وأن الأول يقود إلى الحياة بينما الثاني فيؤدي إلى الهلاك. أقرؤها بأنفسكم، إذا رغبتم. إنها هنا صريحة في الإنجيل: "ادخلوا من الباب الضيّق لأنه واسع الباب ورحب الطريق الذي يؤدي إلى الهلاك وكثيرون هم الذين يدخلون منه. ما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة وقليلون هم الذين يجدونه" (متى 13:7-14).

إذا أردتم أن تسمعوا فاسمعوا، وإن لم تريدوا فافعلوا ما تريدون. هذه ليست تأليفاً بشرياً. إنها وصية الرب، لا أقل. جاهدوا كي تدخلوا من الباب الضيق، يقول الرب في مكان آخر، لأن كثيرين سوف يحاولون الدخول ولن يستطيعوا. جاهدوا، يعني، أسرعوا وكأنكم في سباق تتبارون مع آخرين لدخول هذه البوابة الضيقة العسرة، مهملين الآخرين، لا بل مغتصبينها منهم: دعوني أدخل، دعوني أدخل! وكأنكم خائفون من أن تُغلَق هذه الأبواب.

ليس لنا أن نخمّن السبب في كل هذا، فالله وضعه بهذه الطريقة وهكذا هو. نعم، وأي إله هو هذا؟ هو الذي، لخلاصنا، تقدّمَنا بنفسه في هذه الطريق الضيقة، وبعد كل أنواع العذابات، قدّم نفسه على الصليب قائلاً للص المصلوب: "اليوم تكون معي في الملكوت". بالنهاية، هو مخلصنا! على كل الذين يريدون أن يخلصوا أن يتبعوه. واتِّباعه ممكن فقط بحمل الصليب. "مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (مرقس 34:8). هذه هي درب الذين يشتهون الخلاص: الرسل والشهداء والرؤساء والقديسون، وكل الذين حصلوا على الخلاص ويقطنون الآن مدينة الله أورشليم العلوية.

إذاً، ما العمل؟ بالتأكيد، لا يستطيع أحد أن يخلص يغير هذا، خاصةً أن أيّاً من المخلَّصين لم يبلغ إلى البركة الأبدية بغير هذه الطريق. أليس من الأفضل أن نستسلم لهذه الضرورة حتى ولو لم تكن كثيرة الحلاوة؟ إن العذاب الأبدي أكثر سوءً. فليضبط الراغبون بالخلاص أنفسَهم ولا يبحثوا عن أعذار. هذا صعب، ولكن ما العمل؟ الحياة تسمّى جهاداً، ليس بدون سبب، وكما يقول الرسول بولس: "جاهد الجهاد الحسن" (1تيموثاوس 12:6). أما بالنسبة للذين لا يرغبون بالاستسلام، ويتصرفون كما يحلو لهم، فيجب أن يعرفوا أن القوانين المختلفة والشروط ليست عمل الإنسان: إنها وصايا الله. قد تُضاف هنا كلمة شرح: ما هي ضرورة هذا الشرط أو ذاك؟ لماذا، مثلاً، نحتاج إلى الصوم؟ لمَ الوحدة؟ ولمَ الإكثار من الصلوات؟ وغيرها. على أي حال، لن أتابع في هذا. الذين يتبعون  الطريق الخلاصية يعرفون كم أن كل هذا ضروري، بينما الذين يجتنبون هذا الطريق، فلن يسمعوا عن كل هذا. أظن أني قد كتبت إليك حول ما يختص بهذه التفسيرات المنحرفة للكتاب المقدس في رسالتك. صحيح أنه كان في الملكوت أمور عديدة جلبت المتعة للإنسان، لكن هذه الأمور لم تكن إلا زينة خارجية للحياة الفردوسية. لقد كانت عناصر خارجية. لم يكن هدف الإنسان الأول التلذذ بهذه الأشياء بل الشركة مع الله من خلال التطبيق الطوعي لإرادته. لو بقي الملكوت مكان سكن الإنسان، لكان الناس تمتعوا بهذه الخارجيات أيضاً، دون أن تشغل أفكارهم أو تكون همّاً لهم، كونها ظلاً وملحقاً طبيعياً للحياة التي ترضي الله.

إذاً أنتِ ترين أنه في الملكوت لا يناقشون ولا يتشاجرون  حول اللذات، بينما نحن الذين فقدنا الملكوت فنرغب في جعل الملذات هدفنا الأساسي في الحياة. لو كانت المبهِجات قادرة على أن تكون شرعياً نصيب الإنسان الساقط، لما كان السيد طرد جديّنا من الملكوت. إذ، بطردهما، أظهر أن حياة السهولة والمتعة لا تناسب الإنسان المؤمن. كما تعلمين، بالسقوط تغّير نظام الأمور بأكمله. لقد أُضيفت إلى حياة الإنسان فترة قصيرة من الوجود الأرضي، مليئة بالأحزان والمتاعب، مصَمَّمة لإنارة الإنسان وإصلاحه وتطهيره وجعله مستحقاً للفرح الأبدي في ملكوت أبدي مختلف. حياة الإنسان الحقيقية تأتي بعد القبر، وبتحديد أكثر، بعد القيامة. أمّا الحياة الحالية فهي مجرد عتبة وتحضير للحياة الآتية. لقد قضى الله أن يكون في الحياة الحالية أحزان خارجية ومحن، وقد وصف لها قيوداً مختلفة كوسائل للتطهير. الشهداء سُلِخ جلدهم بمخالب حديدية وبها تهيئوا للملكوت. هذه صورة عن حياة الإنسان الحاضرة التي فيها يتهيأ لأبدية مبارَكة، من خلال القيود المطهِّرة والارتباكات التي هي كالسياط. إذا توصّل الانسان إلى فهم قصر هذه الحياة الحاضرة وكم من النفع هناك في قيودها ومخاضاتها للحياة الآتية التي لا تنتهي، سوف لن يتوقف فقط عن تجنبها ولكن على العكس سوف يطلبها ويسعى إليها كما وراء شيء صالح وإيجابي. هكذا يتقدّم كل الذين يفهمون جيداً معنى الحياة الحاضرة.

حقيقة أن الإنسان، بعد طرده من الملكوت، لم يُجرَّد من كل وسائل المتعة، لا تعني أنه لا مكان للضيقات في نظام الحياة الحاضرة. للتوصل إلى شرح هذه النقطة، تأتي إلى الفكر كلمات معلمي العزيز أمفيتياتروف. كنت مرةً أسير إلى جانبه في مغارة وسألته: "لماذا توجد هذه التباينات في الطبيعة؟ هنا زهرة جميلة إلى جانبها قراص لاسع، والسماء أحياناً صافية وأحياناً أخرى ملبدة؟" أجاب: "أيها الصديق الساذج، هذه التفاوتات ليست أمراً تافهاً في تدبير الله وحكمته المتعلقة بخلاصنا. الرب الرحوم يقول  للإنسان: إن من الحق ألاّ يغادر العرق جبينك، إن قدرك هو أن يرهقك الكدح. لكني أحياناً أعطيك تذوقاً لحلاوة الحياة، فأسمح لعينيك بأن تمتلآ بالنور، ولجبينك بأن يتلطف من التجاعيد، وللبسمة بأن تلعب على شفتيك، حتى لا تفقد الرجاء وتسقط في اليأس. إن العدل هو أن تُخرج لك الأرض شوكاً وحسكاً، لكني أمرت أن تنتج أحياناً وفرة من المبهجات حتى لا تفقد الثقة بأن استعادة البركة الضائعة ما زالت ممكنة. إنه لعدل ألاّ يكون في الهواء فوقك وحولك إلاّ العواصف والبرق والرعد، لكنك غالباً ما ترى الشمس اللامعة وتتمتع ببرودة الصباح اللذيذة وهدوء المساء المنعش، حتى تتذكر أن السماوات ليست مغلقة دونك بالمطلق، وأن صدري مفتوح دائماً لك، وأنني مستعد لقبولك في المساكن السماوية".

إذاً، هذا هو سبب بقاء بعض المفرحات في الطبيعة، وليس السبب تحويل هذه الفتات إلى حفلة تدوم العمر، ولا هو أن نبني من هذه الكسرات معبداً للسعادة على الأرض. لكن الساعين بيننا إلى اللذة يفكرون بشكل مختلف. برأيهم، كل عائق وكل حاجز أمام التلذذ هو انتهاك لطبيعة الإنسان ومعاكس لإرادة الله. لقد سبق لي وقلت أن الأمر ليس كذلك وأن الله نفسه أمر بأن يسلك الإنسان الطريق الضيق، وما يلي يوضح أن هذا ليس بأي شكل من الأشكال انتهاكاً للطبيعة البشرية.
عندما سقط الإنسان لم ينزل فقط عن كرامته بل قبل أيضاً بعض المبادئ الغريبة عن طبيعته الأصلية، وهي بذور كل أشكال الشر. بالتالي، يجب أن نميّز في الإنسان الساقط بين ما هو أصيل لطبيعته وما هو دخيل عليها، مع أنه موجود فيها. كل القوانين والسبل التي تكبح الإنسان والتي وضعها الله وأسّسها، هي بشكل مطلق موجهة ضد بذور الشر الدخيلة حتى تسحقها وتخنقها، وبالتالي تحرّر طبيعة الإنسان الحقيقية.

وهكذا، فالقيود ليست انتهاكاً للطبيعة بل هي وسائل وأدوات نافعة. إنها كمثل العملية الجراحية لاستئصال ورم خبيث، أو مثل اللزقة لاستخراج شيء مضر. إن طبيعتنا هي في عبودية. إن الرب، بوضعه القيود المختلفة علينا، يريد تحرير طبيعتنا. لكننا نقاوم: "لا تقترب منا! لا تضع حولنا سياجاً من القوانين!" وبالتالي، بدل الدفاع عن أنفسنا، نحن نفتري عليها. إن السعاة إلى اللذة هم أنفس ضائعة. هذا لا يعني أنه ليس في الحياة مكان للمتعة. يجب أن نقبل كل شيء من يدي الله بشكر. في الوقت نفسه، يجب ألاّ نكافح وراء اللذات، وأكثر من ذلك، يجب ألاّ نثور ضد كل أنواع الوصايا الكابحة. فالرب لم يعطِ هذه الوصايا لهذا السبب. يظهر هذا التمرد لا فقط في قلة تفهم موضوع المسألة ولكن أيضاً في الإلحاد المحارب. أنتِ ترين إلى أين يقود كل ذلك. لكنهم يفكرون به بخفة. قد يكونون على حق في الوقت الحاضر، ولكن ما الذي سوف يجدونه في العالم الآتي؟ العُسر غير الطوعي سوف يكون بلا نفع لهم، وسوف يكون مرّاً وبائساً. فليرحمنا الرب ويخلصنا.

كيف نتعلّم محبة الرب
في الأسبوع الماضي علمتنا حاملات الطيب المحبة، واليوم يعلّمنا القديس يوحنا اللاهوتي الموضوع نفسه. فهو قد أحبّ الرب أكثر من كل الآخرين وكان محبوباً منه. فلنطبع في ذهننا صورة المحبة هذه، ولنبدأ بتحويل أحاسيسنا وموقفنا من الله بحسبها. كيف بلغ القديس يوحنا اللاهوتي إلى هذه المحبة النبيلة للرب وصار مثالاً للمحبة عندنا جميعاً؟ أظن أنّه قام بذلك بالطريقة ذاتها التي يتّبعها الناس ليحبّ أحدهم الآخر. إنهم يرون جمال شخص ما أو طيبته فينشدّون إليه بكل قلبهم. على المنوال نفسه، رأى القديس يوحنا جمال الرب وصار مشدوداً إليه. لقد أحسّ بمحبة الرب الخاصة له، وتالياً اشتعل بالمحبة إليه. لقد رأى أعمال الرب العظيمة الرائعة والمثمرة فتحرّك بتقوى متّقدة وصار مكرّساً فيها وارتاح إليها. هكذا هي طريق الصعود بمحبة الرب. فلنتبعها حتى نكتسبها في النهاية.

أولاً: القديس يوحنا رأى حلاوة الرب وانشدّ إليها. على المنوال نفسه، تنشأ المحبة بين الناس. إنهم يرون جمال شخص ما، الجمال الروحي أو الجسدي، فتنشأ محبة بعضهم لبعض. إذا رفعنا فكرنا إلى معاينة جمال الرب، فبالتأكيد لن نبقى باردين لا مبالين به. جمال الرب هو مجموع كل كماله. يقول القديس تيخن الزادونسكي: "انظر وتمعنْ، ماذا ينقص الرب؟". كل ما تشتهيه موجود في ملءٍ لا يُوصف ولا يُحَد. أتطلب البركة؟ فعنده البركة الأبدية الحقيقية. أتطلب الجمال؟ فهو بهي بالحسن أكثر من بني البشر (مزمور 3:44). أتسعى إلى النبل؟ فمَن هو أكثر نبلاً من ابن الله؟ أتسعى إلى الشرف؟ فمّن هو الأشرف أو الأرفع من ملك السماوات؟ أتسعى إلى الحكمة؟ إنه أقنوم حكمة الله. أتسعى إلى السعادة؟ إنه فرح الأرواح المباركة ومختاري الله وسعادتهم. أتحتاج التعزية؟ مَن يستطيع أن يعزيك أكثر من الرب يسوع؟ أتسعى إلى الراحة؟ هنا الراحة الأبدية للنفوس التي تحبه. أتريد الحياة؟ إنه نبع الحياة. أتخشى الضياع؟ إنه الطريق. أتخشى الخديعة؟ إنه الحق. أتخاف الموت؟ إنه الحياة كما يؤكّد بذاته: "أنا الطريق والحق والحياة". باختصار، كل ما تحبه النفس البشرية، من الكمال والجمال والصلاح، موجود فيه. أرغِم فكرَك على إدراك هذا وسوف لن تستطيع ألاّ تحب الله. القديسة كاترينا الشهدة كانت وعدت بأن تحب مَن تجد عنده مقدار غناها وجمالها وحكمتها، متوقعةً أنها لن تجد هذا الشخص في كل العالم. رأت أن ما عندها ليس شيئاً بالمقارنة مع جماله وحكمته وغناه. فأعطته نفسها بالكلية متشبثة به ومقدمة نفسها إليه.
ثانياً: عندما أحس القديس يوحنا اللاهوتي بمحبة السيد له، اشتعل بمحبته. عندما تُختَبَر المحبة الصادقة غير الأنانية عند الآخر توحي دائماً بشعور مماثل. فلنختبر محبة الرب ونزكِّ محبتنا له. يسأل القديس تيخن: "ما الذي لم يفعله ابن الله لنا؟ ما الذي لم يوصله إلينا؟ ما الذي لم يحتمله ويتعذب منه من أجل الأنفس الفقيرة المحتاجة؟ ما هي الأعمال والعذابات التي لم يحتملها بنفسه لكي يجلبنا إلى أبيه السماوي، نحن الذين ابتعدنا عنه؟ لقد نزل من السماء لكي يرفعنا نحن المطرودين من الفردوس والملكوت. لقد وُلد بالجسد من أجلنا حتى يأتي بنا إلى عنده عبر إعادة الولادة الروحية. لقد واضع نفسه من أجلنا حتى يرفعنا. لقد أصبح فقيراً لكي يغنينا نحن البائسين. لقد تحمّل الإهانة والجراح لكي يشفينا ويؤلهنا. لقد مات عنا لكي يعطينا الحياة نحن الذين كنا أمواتاً. انظر إلى أي تنازل واتضاع حملته محبته الكاملة ورحمته العطوفة. ألم يختبر كل منا هذه الحركة من محبة الله؟ كم مرة ابتعدنا عن هذه المحبة بالخطيئة؟ وفي كل مرة نعود إلى الاتحاد به عبر رحمته بعبارة واحدة "أنا مذنب ولن أعيدها". كم من المرات أغضبناه باستسلامنا لتجربة ملاذ هذا العالم. وعندما عدنا إليه مجدداً استقبلنا إلى مائدته لنشترك في جسده ونشرب دمه. أليس هذا حنان محبته الرحومة؟ المسيح بيننا في حياتنا اليومية. مَن منّا لم يختبر اهتمامه وقربه في إنقاذنا من المحن والمرض والحزن والأوقات الصعبة، وفي كل حاجاتنا الروحية والجسدية؟ أمن الممكن ألاّ نتجاوب مع هذه المحبة العظيمة ونتوجه إلى الذي يحبنا بلا كلل؟ أمن الممكن أن ننسى محبة الرب لنا بسبب الانشغال وعدم الانتباه؟ متى عرفنا محبته وتذكرناها، من المستحل ألاّ نختبر شعوراً من المحبة للرب مهما كان قلبنا قاسياً. مَن يسير دوماً في حضرة محبة الله، سوف يكون دائماً مستنيراً بمحبته له. هذه هي طبيعة المحبة.
ثالثاً: تذوّق القديس يوحنا حلاوة المحبة للرب واتكأ على صدره بمنتهى السلام. المحبة بحد ذاتها هي عطية لا تُقارَن. إنها تجلب بركة أرفع من كل ما في السماء والأرض. يقول الرب: "الذي عنده وصاياي ويحفظها فهو الذي يحبني. والذي يحبني يحبه أبي وأنا أحبه وأظهر له ذاتي... إن أحبني أحد يحفظ كلامي ويحبه أبي وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً" (يوحنا 21:14و23). كم من العزاء في هذه الكلمات! كم هي عظمة وسامية وعود ابن الله التي يعطيها لمحبيه: أن محبّ المسيح سوف يشارك الآب والابن بالصداقة. يعجز الفكر البشر عن سبر غور صلاح الله. الله العظيم الأبدي وغير المدرَك يشتهي أن يقيم صداقة مع الإنسان الذي خلقه والذي هو عبده. إنه يرغب بهذه الصداقة طالما أن الإنسان لا يرفضها... صداقة مع الآب ومع ابنه يسوع كما يكتب القديس يوحنا. حيث يكون الآب والابن فهناك الروح القدس أيضاً. انظر إلى ما يبلغ محب المسيح! مَن يحبه يستحق أن يكون مسكناً ومنزلاً للثالوث الفائق القداسة. الإله المثلث الأقانيم، الآب والابن الروح القدس، مستعد جداً لأن يسكن في الإنسان بالنعمة. "الله محبة ومَن يثبت في لمحبة يثبت في الله والله فيه" (1يوحنا 16:4). هذا القلب مبارك بالحقيقة! حتى هنا على الأرض سوف يحس الفرح المسكوب بوفرة في قلوب المختارين للحياة الأبدية. يتذوّق القلب جوهرَ صلاح الله ويمتلك ما يعبّر عنه في قول الرب "ملكوت الله في داخلكم".
حيث يكون الله يكون كل ما له. إذا كان الله في داخلك بسبب محبتك، إذاً سوف يبررك من خطاياك، يحررك من أسرك، يهبك السلام بدل الضمير الشرير والفرح بدل بؤسك، التعزية بدل حزنك، التبرئة في يوم الرب، العون على أعدائك، الحكمة والمعرفة بدل التشوّش والجهل، والقوة في ضعفك (عن القديس تيخن). إذا سكن الرب بسبب محبتك، فمَن هو عليك، وأي أذى قادر أن يصيبك؟ إذا كان هو سلامك فمّن يستطيع أن يقلقك؟ إذا كان هو فرحك وعزاؤك فأي إنسان أو أي شيء يقدر أن يسبب لك الأسى؟ إذا كان هو قوتك فمَن يستطيع أن يغلبك؟ إذا كان هو مَلِكَك فمَن يستطيع أن يُخضعك؟ "إذا كان الله معنا فمَن علينا؟"، هكذا يصرخ الرسول بولس بقوة مع كل محبي الرب (روما 31:8). هذه هي المحبة وانظر ما تجلب معها! إن الذين يلجون إلى محبة الله يشعرون بأنهم أكثر كمالاً، لأن المحبة هي رباط الكمال (كولوسي 14:3).
إذا رغبتَ بمحبة الرب، فجاهد إلى معاينة جماله أو ملء كماله بعقلك، اشعر بدفء محبته وتذوّق حلاوة المحبة بذاتها في قلبك. لا يمكن للمرء أن يتعلّم المحبة، إنها تتم في الأماكن المخبأة من القلب. إنها تُبذَر سريّاً وتنضج غير منظورة، كما البذور التي تقع دون علم الباذر فتتبرعم وينمو لها ساق وسنبلة وبذار في السنبلة. المحبة تُبذَر سرياً كما تأثيرها في المحبوب. أدِرْ فكرَك في قلبك إلى وجه الرب المشع المليء بالمحبة والمستحق لها، ومن عينيه سوف تنزل شرارة إلى قلبك وتضيئه بمحبة الرب. مَن يقف بجانب النار يستدفئ بها، ومَن يتوجه إلى الرب بفكره وقلبه يستدفئ بحرارة محبته، ويتهيأ باستعداد دافئ نحو الرب "محبة الله قد انسكبت في قلوبنا" (روما 5:5)، هكذا يعلّم الرسول بولس. المحبة هي هبة، ولكنها هبة مهيأة لكل مَن يسعى إليها. اشتهيها واطلبها وسوف تحصل عليها. كما أن الله يتقبل كل إنسان بسرور، هكذا من المستحيل ألاّ نحبه. في أي حال، وبما أن الله لا يحبه الجميع إذ لا يتوجهون نحوه ويسعون إليه جميعاً، فقد أحبنا هو أولاً وعلينا بالتالي أن نحبه.
هذه هي الحال: لقد أحببنا شيئاً ما بدلاً منه، شيئاً لا يرضيه ولا هو يباركه، ونحن عاجزون عن محبته لأن لنا قلباً واحداً وليس اثنان. إذاً، لا نستطيع أن نعمل لله وللعالم. تذكروا أيها الإخوة أن محبة العالم عداوة لله (يعقوب 4:4). عداوة لله! هذا أمر رهيب! وأسوأ منه هذه الكلمات: "إن كان أحد لا يحب الرب يسوع المسيح، فليكن أناثيما، ماران أثا" (1 كورنثوس 22:16). هكذا كان تعبير الرسول بولس عن محبته الغيورة.
فلنمعن النظر في هذه الأمور، أيها الإخوة، ونلزم أنفسنا على محبة الرب من كل قلوبنا وكل نفوسنا وكل قوتنا. بل ما هو أفضل هو أن نوقظ محبته النائمة فينا ونفعّلها حتى نراها ويراها كل إنسان. آمين.
ألقيت في 8 أيار 1864

الحق والمحبة في كتابات القديس يوحنّا الإنجيلي
إن القديس يوحنّا اللاهوتي، الرسول والإنجيلي، تلميذ الرب المحبوب، هو قبل كل شيء مثال للمحبة ومعلّم لها، فالمحبة تتنفس من خلال إنجيله، فيما دروسها تملأ رسائله، وحياته هي مثال واضح عنها.
لقد شرح حول كل أسرار المحبة: مصدرها، حركتها في الأعمال، تأوّجها، والقمم التي تقود تابعها إليها. إن القديس يوحنا معروف جداً وبشكل خاص في موضوع المحبة هذا. وإذا تأمّل أيّ كان بموضوع المحبة، لا بد أن يفتكر مباشرة بالقديس كمثال لها وأن يتحوّل إليه كمعلم عنها.

فلنتفحّص الآن كيف استعمل حكماء هذا العصر تعليمه. إن عندهم نوع خاص من الحكمة التافهة تسمّى "اللاتفريقيّة" (Indifferentism). وهم يقولون بحكمتهم: أمِن بما يحلو لك فهذا لا يهم، إنما أحبب الجميع كإخوتك، كن محسناً إليهم، وليكن لك تأثير مفيد عليهم. إنهم يشيرون إلى أن الإنجيلي يوحنّا يحكي عن المحبة فقط. بالنسبة إليه، المحبة هي النور والحياة وكل الكمال. وبحسب كلماته، مَن لا يحب يمشي في الظلام ويسكن في الموت ويكون قاتلاً.
كما نعرف، عجز القديس يوحنّا عن المشي في شيخوخته، فكانوا يحملونه إلى الكنيسة. هناك يحذّر "إيها الإخوة، لنحب بعضنا بعضاً". إذاً هو أعطى المحبة قيمة كبرى. لكنهم يخبروننا بأنه علينا أن نحب مثل تلك المحبة الغريبة، أقله إذا كنا نرغب بذلك.
أنا شخصياً اضطررت لسماع هذه "الحكمة". قد تضطرون إلى سماع شيء مماثل. فلنقابل تعليمهم المضلِّل بتعليم القدّيس يوحنّا اللاهوتي الصحيح ولنحفظ أفكارنا من الميل عن أصول الحس المسيحي الصحيح إلى حكمة اللاتفريقيين العبثية. يرغب هؤلاء المدعوين حكماء ببناء كل شيء بمعزل عن الله بما فيها سعادتهم الخارجية وفضيلتهم. ومن هذا هم يجاهدون حيثما استطاعوا لكي ينسجوا بحنكة مدرسةً فكريةً لا حاجة فيها للكلام عن الله. إنهم يقرعون طبول المحبة ويخبروننا بأن نحب بعضنا البعض لكن من دون داعٍ للتفكير بالله. إن الإنجيلي القديس يهزمهم عند هذه النقطة. مع أنه يذكّرنا دائماً وبشكل دقيق بمحبة أحدنا الآخر، لكنه يضع المحبة في ارتباط قوي مع الله، مع محبته ومعرفته المستحيل فصلهما. لاحظوا أين تنشأ محبة القديس يوحنا لله، ليس في أننا نحبه بل في أنه هو يحبنا، وقد أرسل ابنه ليكون الكفارة عن خطايانا. ويضيف، أيها الأحباء، إن كان الله قد أحبنا هكذا ينبغي أن يحب بعضنا بعضاً (1يوحنا 10:4-11). بحسب تفكيره، يجب أن تُبنى محبتنا المتبادلة بعمل الإيمان بالرب الذي أتى ليخلصنا، وبالتالي ليس صحيحاً أن يؤمن المرء كما يحلو له.
ثم يعلّم، أيها الأحباء، لنحب بعضنا بعضاً  لأن المحبة هي من الله (1يوحنا 7:4). إن أحب بعضنا بعضاً فالله يثبت فينا (1يوحنا 12:4)، الله محبة ومَن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه (1يوحنا 16:4). كما ترون، إنه لا يقول أي كلمة عن المحبة بدون ذكر الله والمخلّص. المحبة هي من الله وتقود إليه. إذاً مَن يقول أنه يحب أخاه ولا يعرف الله والمخلص، هو كاذب والحق ليس فيه (1يوحنا 4:2 و20:4). وهكذا من الممكن أن نلخّص كل تعليم الإنجيلي عن المحبة بالكلمات التالية: حتى تحبّ أخاك يجب أن تحبّ الله، ولكي تحبّ الله، عليك بالتأكيد أن تعرفه في داخلك وتعرف بشكل خاص عمله الخلاصي لنا. يجب أن نعرف ونؤمن. بمَ تكمن إرادة الله؟ بالمحبة والإيمان، هكذا تقول الوصية: أن نؤمن باسم ابنه يسوع المسيح ونحب بعضنا بعضاً (1يوحنا 23:3). إنه لا يوصينا فقط بأن نحب بل أيضاً بأن نؤمن بالرب، وبطريقة يكون الإيمان مصدر المحبة. إذا شاء أحد ما أن يجمع كل الأماكن التي يحكي فيها الإنجيلي يوحنا عن المحبة فقط، لا بد أن يضحد تعليمه التفكير الخاطئ بأن تحب وتؤمن كما يحلو لك.
إلى جانب تعليمه عن المحبة هو يحكي أيضاً عن الإيمان مستقلاً عن ناموس المحبة. انظروا كيف أنه يرفض بشكل مطلق أولئك القائلين: أحب كيفما تشاء. ماذا يعلّم في الآيات الأولى: الذي كان من البدء، الذي سمعناه الذي رأيناه بعيوننا الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهرت وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهرت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضاً شركة معنا. أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح (1يوحنا 1:1-3).

أهم نقطة عند القديس يوحنا وسائر الرسل هي التعليم عن الشركة مع الله عبر الرب يسوع المسيح الذي منه تنبع شركة المؤمنين مع بعضهم البعض. كيف لنا أن نحب الأول دون الآخر؟ من ثم يسأل القديس يوحنا هذا السؤال: مَن هو الكاذب؟ ويجيب هكذا: "مَن هو الكذّاب إلا الذي ينكر أن يسوع هو المسيح. هذا هو ضد المسيح الذي ينكر الآب والابن. كلّ مَن ينكر الابن ليس له الآب أيضاً ومَن يعترف بالابن فله الآب أيضاً" (1يوحنا 22:2-23، 15:4). تتلخص كل القضية في الاعتراف بأن الرب يسوع المسيح هو ابن الله وإله. إذاً، كيف يكون ممكناً القول "آمِن كما تريد".

من ثمّ يأتي التحذير: "أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح بل امتحنوا الأرواح هل هي من الله لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم. بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله. وهذا هو روح ضد المسيح" (1يوحنا 1:4-3). كلّ مَن يقول "آمِن كما تشاء" لا يعترف بيسوع المسيح، لأنه لو اعترف بالمسيح فلا يتكلّم هكذا. إذاً لا يستطيع أن يكون من الله. إذاً من أين هو؟ إنه بالحقيقة من ضد المسيح.

في النهاية، يصف الإنجيلي جوهر المسيحية على هذا المنوال: "وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه. مَن له الابن فله الحياة ومَن ليس له ابن الله فليست له الحياة" (1يوحنا 11:5-12). مَن عنده ابن الله؟ المؤمنون باسمه. لذلك يقول ويكتب: "أنتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية" (1يوحنا 13:5). بالتالي، إن مَن لا يؤمن بابن الله ليست له الحياة الأبدية. أمن الممكن أن لا فرق بالإيمان؟ لا. "نعلم أن ابن الله قد جاء وأعطانا بصيرة لنعرف الحق. ونحن في الحق في ابنه يسوع المسيح. هذا هو الإله الحق والحياة الأبدية" (1يوحنا 20:5).

يجب أن تكون هذه المقاطع كافية، على ما أفترض، لكي تظهر للاتفريقيين أنهم عبثاً يسعون إلى إيجاد تأييد لكذبهم في تفسير تعليم القديس يوحنا اللاهوتي. على الأرجح أنهم يطلقون هذه الادعاءات من دون أن يكونوا قد قرأوا كتابات القديس يوحنا المقدسة الملهَمة من الله، لكنهم يقتبسون منه استناداً إلى إشاعات عن محبته الفيّاضة. فليجدوا لهم الآن شيئاً غير هذه الحجة ليدافعوا عن تعليمهم أمامنا نحن المؤمنين. إن كلمة واحدة من التلميذ المحبوب تكفي لتخزي تعليمهم و تثبّت بلا شك إيماننا على نحو بيّن، في ما أعطي لنا من الرب عبر الرسل القديسين وحفظة الكنيسة.

أرغب فقط في أن أضيف الاعتبار التالي إلى كلمات الرسول الإنجيلي يوحنا الحاسمة: بعد أن غرّبوا أنفسهم بفكرهم عن الرب، تعلّق هؤلاء العادمو الإيمان بأعمال الرحمة التي مصدرها ودعامتها هي المحبة. إنهم يتصرفون بهذه الطريقة فقط حتى يستندوا إلى شيء ومن دون أن يكونوا أكيدين أنهم قد وجدوا أساساً صلباً. لو كان عندهم فهماً واضحاً لكيفية تصرُف الرجل بطريقة مثمرة، لما ثبتوا في تعليمهم.

إن جوهر المسألة هو أننا لسنا في الوضع الملائم. إذاً، نحن لا نستطيع أن نتصرّف بالطريقة الصحيحة. لكي نعمل بالطريقة الصحيحة يجب أن ندخل في الحالة الصحيحة. نحن نعجز عن هذا بقوانا الذاتية. الرب، إذ أتى إلى الأرض، رفع الإنسان إلى الحالة الصحيحة. لم يقُد الإنسان إلى هذه الحالة إلا لأن الأخير قبِل منه بشرية مجدَّدة وبالتالي ربح إمكانية التصرف بالشكل الملائم. نحن نكتسب هذه الحالة بالمعمودية، لأن المعمّدين في المسيح لبسوا المسيح. منذ المعمودية نصبح واحداً مع السيد ونبدأ بعيش حياته والعمل بقواه.
على الذين يدّعون المحبة أو العمل الصحيح (لأن المحبة هي ملء الناموس) أن يقبلوا أولاً كل مقدمات المسيحية لكي يصبحوا قادرين على السير بحق ويرفضوا خطأهم. هذا مستحيل من دون الإيمان، لأن الإيمان هو جذر المسيحية وبداية كل شيء. يقول الرب نفسه: "اثبتوا فيّ وأنا فيكم. كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم إن لم تثبتوا فيّ. أنا الكرمة وأنتم الأغصان. الذي يثبت فيّ وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئاً. إن كان أحد لا يثبت فيّ يُطرَح خارجا كالغصن فيجف ويجمعونه ويطرحونه في النار فيحترق" (يوحنا 4:15-6).

إذا راح أحدهم يشرح لكم عن المحبة أو العمل المثمر بمعزل عن الإيمان الصحيح، قولوا له: "انتظر! آمن أولاً بشكل صحيح. بالإيمان اكتسب تعاليم المسيحية الخلاصية ومن خلالها اتحد بالرب واجعل حياتك وقوتك متوقفتين عليه كما قد تعتمد صحتك على دواء، وعندها يصبح عملك مثمراً. إن الحقيقة هي أن الشهادة لحياة بارة هي العمل المثمر في المحبة، ولكن لبلوغها والثبات فيها على المرء أن يقبل حقيقة الله بإيمان ويعبر في كل أعمال الله المقدِّسة. فقط في هذه الشروط، أي بالسلوك بالمحبة الحقيقية، يمكن للمرء أن ينمو في كل شيء إلى الله، على ذاك الذي هو الرأس، المسيح (أفسس 15:4). نستطيع أن نجمل على هذا النحو: مَن ليس له الإيمان الصحيح لا يدخل حالة البِر، ومَن لا يدخل حالة البر لا يستطيع أن يعمل كما ينبغي. أترون الآن كيف لا يصح القول: آمن كما يحلو لك، فقط أحبْ؟"

الإيمان ليس صورة معرفة الله وعلاقتنا به، بل هو يتضمّن كل ما أعطانا الله من الأمور الخلاصية، ليس الكنيسة فقط كمؤسسة بل كل ما تحتويه للخلاص. هذه المؤسسات الخلاصية تصون الإيمان الفاعل. رجالنا الذين يسمّون أنفسهم حكماء قد لا يعارضون التعليم المسيحي، لكن، قبل كل شيء، الأعراف المسيحية تصدّهم، لأن هذه الأعراف ليست أكثر من الإيمان بالحقيقة والعمل، وهكذا فإن خطيئتهم الأساسية هي أنهم لا يرغبون في العمل بروح الإيمان. من المدهش كيف أن هؤلاء الأشخاص يعلّقون بإصرار على المآثر والأعمال لكنهم يسلخون أنفسهم عن النشاط في حقل الإيمان المقدس. هنا ينقص شيء ما. بالتأكيد، هم مطّلعون على قوانين الفكر المنطقي. يوجد هنا ازدواجية حتى أنّ المرء يشك في أنهم فعلاً فاعلون وليسوا أدوات لروح غريب هو بدوره غريب عن الحق.

أيها الإخوة، إذ قد فهمنا هذا، لنحفظ أنفسنا من فكر هذا العالم الشرير. لا يتردد عن الحق إلا الذين لم يتذوقوه. فلنمتلئ من التواضع ومن روح الحق الذي هو كل ما يطلبه إيماننا المقدس، عندها سوف نمتلك ونحمل في داخلنا شهادة تهلك كل الحجج الخاطئة التي في الخارج. لينيرنا الرب بحقه،
آمين.