الصفحات

الصفحات

الضيقات وملكوت السموات ـ الجرء الاول من ميامر مار اسحق ـ الميمر الاول ــ جهاد المتوحد وسمو حياته .

الميمر الأول
جهاد المتوحد و سمو حياته

في الإفراز الطبيعي :
1-      الصورة الآدمية (أي الجوهر الإنساني) فيها حركات و إفرازات و مشيئات وأنواع مختلفة من أعضاءٍ و أفكار وترتيب الجسد و النفس والحواس .
2-      الجسد فيه العين و الأذن و الفم و اليدان. 
و الإنسان الجواني فيه حواس و أفكار كالأعضاء في الجسد. 
و فيه ضمير وفكر و تمييز و فهم و عقل و ذهن، و فيه أيضاً إرادة و حرية. 



و كل هذه أعمالها معروفة، و كلٌ يتسلم من الآخر، و جميعها تشارك في عملٍ واحدٍ.
3-    أول جميعها هو الضمير, و الثاني هو الفكر ، ثم التمييز و الفهم و العقل و الذهن. 
عمل الضمير هو أن يُضمر بما يكـــــــون . 
عمل الفكــر هو إن كان ينبغي أن يكون الشيء أم لا . 
عمل التميـــــيز أن الذي يُعمل لا يفسد . 
عمل الفهــــــم أن يكون العمل حســـناً . 
عمل الإرادة      أن توافق على العمل (أو لا توافق). 
كلها قواتها معروفة وأفعالها مفروزة .
4-      قد يضمر الإنسان و لا يفكر , و هناك من يفكر و لا يفهم . 
كذلك هناك من يريــد و لا يميز , و آخـــــر يمـــــيز و لا يريد . 
 و      هناك من ينظر الشيء أنه حسن و ما يريد أن يقتنيه .
 كذلك هناك من فيـــــــه حكمــــــــــة  و ليس معه تمييز ,
أو مَن هو فهيـــــــم و ما له تدبير . 
و قد يوجد من يضمر و لا يفكــــر , 
                 أو يفكر و لا يريـــــــد. 
5-    فعل الإفراز هو أن يميز الجيد من الرديء , و يفاضل بين الشيء و الشيء . 
    فعل الحرية موضوع بين الحياة و المــوت , و بين البر و الإثم .
6- الإنسان ما دام هو جسدانياً أو نفسانياً , فهو مفتقر إلى الحواس , 
فإذا بلغ إلى الروحانية بطل احتياجه إليها . لأنه حيث يكون روح الرب توجد الحرية .
7-      إذا أراد الضمير أن يبني بيتاً فهذا هو فعل الضمير, 
ومنه (يسأل) الفكر إن كان ينبغي أن يكون ذلك أم لا , 
 و الإرادة هي التي تجـــزم و تقطــــع في الأمــــــــر . 
أما ماذا يكون و كيف فهذا يُدعي معرفة، و في أي وقت يُعمل هذه سياسة , 
أما التمييز فهو الذي يعطي مقدار الشيء كيف يكون , 
  و الفهــم هو الذي يهتــــــم ألا يصـــير فيه عيــــب .
8-      فكر الله في خلائقـــــــــــه لا يبـــــــــــدأ و لا ينتهي .
    الملائكة و النفوس و الشياطين بـــــــــــدأوا و ما ينتهون. 
    (أجساد) النـــــاس و العالم المحسوس بدأوا و ينتهــــون . 

   الله المسجود له لا بدء له ولا نهاية . هذه الأربعة تُعرف بالمبدأ و بالمنتهى .
9-      جعل الله الغضبية في الطبع لتكون إناءً للغيرة (الصالحة ) 
لا لكي نصنع بها السخط و نؤذي (الآخرين) و ننتقم لأنفسنا , بل لكي نقيم بها الحق .
 و وضع لنا الفم لكي نبارك و نسبِّح ، لا لكي نلعن و نجدِّف .
 و وضع فينا العين لكي ننظر الأشياء و نشكر الخالق و ليس لكي نشتهي ردياً . 
10-إن قال أحد : لماذا لم يجعل الله كل إنسانٍ حكيماً ؟ 
فليميِّز أنه ما ينبغي أن تكون الأرض كلها ينابيع .
11-عار عظيم للمتوحد الذي يَعِد بكمال السيرة ثم يكتفي بفضائل العلمانيين . 
و لومٌ عظيم ومحقرة في حقه أن يوجد تدبيره مساوياً لتدبير من هو خائف من الله و بار
 و مهتم بعمـــــل الــــبر و هو علمــــــاني مــــــتزوج .  

لأنه إن لم يكن الراهب مرتفعاً عن جميع الجســديات , 
و يشخص كل وقت في الله بالتدبير في السكون , لا يُعرف أنه أفضل من العلماني البار . 
لأن العلمانيين الفضلاء يعملون الفضائل الظاهرة بأجسادهم و بالصدقة , 
و لكنهـــم لا يحســـــون بالتدبــــير الخفي الكامل الذي للمتوحـــــدين .
12-و ينبغي للراهب أن يعرف أنه :
 كما أن النفــــــــس بطبيعتهــــــــا أفضل من الجســـــــــــــــــــــــــد ، 
 كذلك فالتدبير الخفي بالسكون هو أفضل من تدبير العلمانيين الظاهر .
و كما أن تدبير الملائكــــــــــــــــــة أفضل من عمـــــــــــــــل النـــاس , 
كذلك تدبير العقــــــل بالسكون هو أفضل من تدبير الرهبـان بالمجمـع ,
                                          و من فضائلهــم التي تشبه فضائل العلمانيين الأبرار .
13-و كما أن حــــــــب اللـــــــه أرفع و أشرف من حـــــــــــــــــب النــــــــاس ، 
كذلك عمــــل المتوحـــدين هـــــو أفضـــــــــــل من عمل العلمانيين الصديقين . 
لأن العلمانيين بمحبة الناس يُرضون الله ، 
أما الزُهَّــــــــاد فما يشتهون شيئاً مما في السماء أو على الأرض ،

فهـــم يشــــتاقون إلى الله وحـــــــده ؛
 لأنهم بإرادتهم قد تعرُّوا من كل شيء , و ألبسوا ضميرهم نظر الله و حبه . 
لهذا فإن عمل السكون هو عال وأفضل من جميع الفضائل .
14-و غرضنا من حفظ السكون ليس هو لأجل تكميل القوانين , 
بل قصــــدنا من حفظه إنما لأجل عمـــل القـلب . 
لأن تكميل القوانين يتخلَّف بسبب ضعف الجسد , 
و أما عمل القلب فينمو و يزيد بالجلوس في الوحدة .

15-  وعمل القلب ينقسم إلى أربعة أنواع :

حزن القلب , اتضاعه :
 و همّـه لأجل خطــــــاياه الســــــــــابقة , 
 و خوفه من الزلل و السقطات الحادثة له .

لأنه بهذه تتربَّى صلاة القلب , أي بالحزن و الاتضاع و الهذيذ بالفضائل . 
أما الهذيذ بالفضائل فهو تحريك (أي تأمل) حُسن تدبير القديسين ؛ 
لأنه من هذا النوع من الهذيذ تتيقظ النفس حتى تتزين بفضائلهم , 
و يأخذ الراهب شبههم في ذاته , 
و يتمثل بهم في الصبر و الفرح بالضيقات و التجلد في الوحدة و عفة الأعضاء و الازدراء بشهوة الجسد والاهتمام الدائم بالطهارة , 
و أن يكون غير محسوب بالكلية؛ 
لأنه من هذا يتولد فيه عدم الغضب, 
الغضب غير الحريّ (غير اللائق) الذي هو دليل العظمة الكامنة داخل النفس.
16-ومثلما تتصور فضائل القديسين في النفس, فإنها بغير عناء تتبع مثال صبرهم؛ لأنه بهذا تتنقَّى صلاتنا من الانحلال والملل. فمن (حالة) الطياشة في الأفكار (يتبدل الوضع) فتأخذنا غيرة فضيلتهم، وكم من مرة يقبل الله صلاتنا.
17-وهذا هو القصد من عمل السكون: أن يتقوَّم به العقل ويتشجع ويتطهر ويطرد الكسل، حتى تكون شهوته في كل أوقاته في مفاوضة الحسنات؛ وبعدم تذكار العالم تملك فيه حرارة دائمة بذكر الفضائل, وهكذا يتدرج إلى نقاوة عمل العقل الذي هو العمل الفاضل.
18-ومن هذين الأمرين (أي من الهذيذ بفضائل القديسين وعدم تذكار العالم) يقتني الراهب أمرين فاضلين: الأول هو التفرس في خلائق الله, والتعجب بالسياسة الإلهية فينا من الأول إلى الآخر. 
والأمر الثاني هو الهمُّ الفاضل بالله وحده  :
 و الذي يجذب للدهش في طبيعته علي الدوام, وضميرٍ عالٍ متحكم بالروح، ومعرفة فاضلة, وإيمان سري متضاعف باهتمام العالم الجديد وبالهذيذ بالمزمعات, وانتقال دائم (إلى العالم الجديد) بسَفَر الضمير, وظهور أسرار في الذهن تتغير بحسب المنازل فيرتقي ( من درجة إلى أخرى) بغير إرادته. وينتهي أمره أنه يتحد بالأزلية الإلهية, ويرجع العقل إلى العلة الأولى (أي إلى الله) في كمال تدبيره. ويتفرس في ترتيب حب الخالق وفي إرادته الصالحة للناطقين. وهنا تبطل الشكوك و يبطل الخوف.
19-إلى هذا الكمال ينتهي قصد تدبير الوحدة والعمل في القلاية. لأن الجسد يضعف والضمير يتشبب والحواس تبطل والمعرفة ترتفع والأفكار تشرق بالنقاوة, والذهن يطير ويرتفع إلى الله بتصوره, والضمير ينقبض من العالم ويطيش بالله بهذيذه, ومع أن الفكر مشتبك مع الجسد لكنه لا يثبت معه بل تكون مفاوضته دائماً في العلا فيما هو أفضل. الجسد انحطَّ وكفَّ, والقلب يُسَرُّ بالفرح. ومن دون المعرفة لا يرتفع القلب. أيها المسيح أخرجني من الظلمة إلى النور لكي أسبحك تسابيح القلب لا الفم .
20- الذي قد بلغ إلى تدبير الثاؤريا ومعرفة الروح ينبغي له جداً الوحدة والسكون في موضع سكنه ويكون منقطعاً من كل أحد, لكي يقتني سكوناً بسكون, وبالأكثر في الليل مثلما أرانا سيدنا أنه كان ينطلق في الليالي إلى موضع قفر، وذلك لتعليم أبناء النور المزمعين أن يسيروا في أثره بهذا التدبير الجديد. لأن المفاوضة الفردية مع الله هو عمل الرتب السمائية الذي ظهر للناس بابن الله لما نزل إلى عالمهم وأراهم عمل غير المنظورين؛ لأنهم يتحركون بتمجيد الله بلا فتور, ويرتفعون بتصور الثاؤريا (أي بالنظر الإلهي) إلى طبع الثالوث المسجود له, ويثبتون في الدهش بنظرة عِظم ذلك المجد الذي لا يُنطق به, وبهذا التدبير فإن جميع البشر عتيدون أن يكونوا في القيامة العامة.
21 – كلما يدنو الإنسان إلى معرفة الحق، ينقص فعل الحواس ويزيد صمت الإفراز دائماً. وبقدر ما يقترب من تدبير العالم بعمله تكثر فيه يقظة الحواس وتلذذها. لأن تَقلُّب هذه الحياة قد أُعطي لخدمة الحواس, أما التدبير المزمع فهو لعمل الروح. بل إن الحواس في هذا العالم لا تحتمل استعلان ذلك السر، فتتخلف عن عملها مثلما تكون أثناء النوم.
 فالحواس ليست هي التي تستقبل ذلك السر الذي يُعطى كعربون، بل الإنسان الداخلي. يعطيك الله أن تعرف قوة العالم المزمع، فبهذا تتخلف عن جميع استعمالات هذا العالم.
22ـ قصد هذه المقالة أنه ينبغي لنا أن لا نبطل أي نوع من الأنواع الجسدانية اللائقة بالصلاة برأيٍ فاسد ولو أننا نرتفع بتدبيرنا إلى علو الأعالي؛ وأعني بهذا القيام في الخدمة (أي المزامير) والسجود والمطانيات. لأن خدمة المزامير تخلِّصنا من شرور كثيرة, وبها نبلغ إلى موهبة طهارة الصلاة وإلى نظرة العقل التي هي الأفهام بالروح؛ لأن هذا هو كمال الخدمة وغاية كل ترتيب القوانين .
23 ـ حب الله ليس هو شيئاً غير معروف يختلج (في القلب) بغير إفراز. كما أنه لا يُستطاع أن يتحرك في الإنسان من معرفة الكتب, ولا الإنسان نفسه متى أراد يقدر أن يحب الله من معرفة القراءة وسِير الكتب. ولا حين يملك على العقل الاستحياء من تذكار عظمة الله ويخاف منه بإفراز خوف العبيد أو مخافة البنين ويتيقظ لعمل الفضيلة ولحرارة الصلاح والاحتراس من الأمور التي ينهى عنها الناموس, ولا بأن يغصب الإنسان ذاته قسراً بالجهاد والعناد لكي يتصور في نفسه حب الله. ولا من العادات والتخيلات البشرية؛ حتى ولا من النواميس والوصايا التي على الحب يستطاع أن يُحَب الله؛ لأنه من الناموس يتولد الخوف وليس المحبة. ولكن هي عطية ينالها الإنسان إذا ما قَبِل روح الاستعلانات, فتتجدد نفسه بحركاتها بحكمة الله التي تفوق العالم، ويبتدئ يحس بالله في ذاته أنه عظيم جداً. فبغير هذا لا يمكن أن يدنو إلى مذاقة المحبة المحمودة. لأن الذي لا يشرب الخمر لا يسكر من الخبر على صفته، والذي لم يؤهل في ذاته لمعرفة عظائم الله لا يقدر أن يسكر بمحبته .
24- قبل كل شيء ينبغي أن تعلم أن تدابير المسيحية تنقسم إلى طرق كثيرة متنوعة, وذلك لمعرفة المسيح سيدنا بعجز وضعف طبع بني البشر وكثرة اختلاف آراء النصارى، إذ ليس الجميع يريدون أو يستطيعون أن يسلكوا في طريق الكمال التعبة العسرة لكي يدركوا بعمل الجسد وعرق النفس ذلك الشيء الذي من أجله أدركهم المسيح، أي أن يحبوه بالكمال بعمل وصاياه المحيية حتى إلى الموت مثلما أحبهم هو بالتمام، وأظهر حبه لهم بالفعل بكل تعب وتجربة احتملها من أجلهم حتى إلى موت الصليب المُهين - فلهذا استعمل معهم الرحمة، فوضع قدامهم طرقاً كثيرة وسبلاً مختلفة لكي الذي لا يقدر أن يسير في الطريق التعبة لأجل صعوبتها يسير في الأخرى لأجل سهولتها حتى لا يخيب أحد من النصارى من ميراث تنعم ملكوت السماء الذي أنعم به عليهم بسفك دمه من أجلهم.

25- لأن كل إنسان بحسب محبته لربنا, وبمقدار عمل وصاياه هكذا تكون مكافأته ويكون تنعمه. وقد قال ربنا: «في بيت أبي منازل كثيرة», وقال بولس الرسول: «إن نجماً يمتاز عن نجم في المجد، هكذا أيضاً يكون في قيامة الأموات». ولهذا قلنا إنه يوجد اختلاف كثير في سيرة المسيحية, فكل واحد أفضل من رفيقة وأكمل .
26- تدبير العلمانيين النصارى الحقيقيين شيء, وتدبير المتورِّعين شيء آخر، وكذلك آخر هو تدبير الرهبان الذين لا يتخذون نساء ولا يأكلون لحماً، وهم أقل من المتوحدين وأفضل من المتورعين. هؤلاء الرهبان يزرعون ويحصدون ويخدمون من يطرقهم؛ لأن أديرتهم مبنية على قارعة الطريق. وهناك أيضاً تدبير المتوحدين المبتدئين وهؤلاء هم سكان في مجامع كنونيون, ثم تدبير المتوحدين المنفردين في القلالي ويحفظون السكوت, وتدبير المتوحدين الذي يحفظون سكون الأسابيع أي صوم سيدنا وصوم الرسل وصيام الأنبياء. وكذلك هناك قانون وتدبير المتوحدين الذين يجلسون منفردين خارج المجامع وفي البراري والمغاير. وآخر هو تدبير وسنن المتوحدين المتنقلين، كالذين كتب عنهم الأب إشعياء، وكالسبعة الذين مضوا إلى الأب شيشوي. وآخر أيضاً هو التدبير العالي الكامل الذي للسواح. ويقصر بنا الوقت أن نتكلم عن أشكال وتدابير هذه الرتب المختلفة؛ لأن كل رتبة منها تحتاج ميمراً ليظهر ما هو تدبيره وما هي كيفية عمله.

27 - والآن نتكلم عن تدبير المتوحد الذي يمسك سكون الأسابيع, ولأي سبب كان الآباء - كل واحد في زمانه - يأمرون الإخوة بالجلوس في السكون, ونُظهِر بعد ذلك ما هي منفعة السكون. تَعْلم أن أيام القديس مقاريوس ما كانت مثل زماننا نحن، إذ لو كانت أيامنا مثل ذلك الزمان الذي عاش فيه القديسون لَما كانت هناك ضرورة تدعو الإخوة المبتدئين إلى الحبس أسابيع محدودة. لأننا نعلم من الكتاب الذي وضعه القديس مقاريوس أن الأخ المبتدئ لا يخرج من قلايته في وسط الأسبوع مطلقاً، ولا يزور أحدٌ أخاه. لكنهم في يوم السبت كانوا يخرجون من قلاليهم وقت العشاء، ويأتون إلى المجمع و هم صيام. لأنهم كانوا يتقربون عشية السبت طوال السنة صيفاً و شتاء.
28- ولما كان الآباء والإخوة يخرجون ويأتون إلى المجمع ليسمعوا القراءة، فالذي كان يتهاون ولا يحضر كانوا يقطعون عليه بحكمٍ صعب. وبعدما يتقرَّبون يدخلون إلى المائدة. وبعد الأكل يقفون في الصلاة ليلة الأحد ساهرين بلا نوم من العشية إلى باكر بخدمة المزامير والتسابيح وقراءة الكتب وتفاسيرها وأسئلة الإخوة وإجابات الشيوخ ويترتبون منهم بالمواعظ. وما كانوا يعطون فرصة لا للشيطان ولا لأحد من الإخوة المنحلِّين أن يتكلم كلمة تجلب خسارة لأحد, ولا أن يثلب أحدٌ رفيقه أو يحرك معه خصومة، أو أن يجلب أحدٌ ذِكر أي شيء من أمور العالم أو من سيرته الباطلة حتى لا يتأذَّى أحدٌ من الإخوة المحترصين.
29- فحتى وإن كان أحد يتأذى في قلايته, إما من ضجر أو من قتال, فهو عندما كان يخرج إلى المجمع كان ينتفع بمنظر الآباء, ويحترّ بالغيرة كما بنار عندما ينظر أعمال الآباء ويسمع كلامهم ويشاهد فضائلهم فيتزود مما نظر وسمع بمنفعة عظيمة ومعونة في العمل والجهاد في حبسه. ورغم هذه المنفعة كلها التي تكون من اجتماعهم يوم الأحد, فمع هذا ما كانوا يسمحون للإخوة أن يخرجوا من قلاليهم وسط الأسبوع.
30- وأما في زماننا هذا العادم من الاستقامة, الذي برد فيه الحب وتخلَّفت الحرارة وانعدم التحفظ, فإننا كل وقت نخرج فيه إلى المجمع نوسق خسارة ليست بقليلة بسبب كلامنا الباطل, ولا تكون في صلاتنا وخدمتنا قوة. وإن كان فينا إخوة حريصون فإن حرصهم طوال الأسبوع يتشتَّت بسبب الكلام الردئ الذي يسمعونه من المعتادين بالانحلال. فالضرورة تلجئ الذين يهتمون بخلاص نفوسهم ويتشوقون لمحبة ربنا ولتكميل وصاياه المقدسة أن يداوموا الثبات في السكون كل واحد حسب رتبته.
31 - أولاً يُبعد الإنسان ذاته، ويحدد لنفسه قانوناً ألا يخرج مطلقاً من قلايته طوال مدة الأسبوع, ولا يسمح لأحد من الناس أن يعبر إليه, وإن أمكن ولا من الطاقة يتكلم مع أحد، حتى يأخذ لنفسه خبرة في جميع الضوائق التي تحدث له من الآلام ومن الشياطين الملاصقين لعمل السكون الأسبوعي, ويميز الأفهام الروحانية والتعزيات الإلهية التي تُعطى له بنعمة الله حسبما يليق بطقس عمل السكون الصغير الذي هو حبس الأسابيع. وبعد ذلك يتدرج إلى سكون أعلى من هذا، الذي هو سكون كل الأيام. وإن استطاع وأراد فيكمل كل أيام حياته في السكون الكلي والانقطاع الدائم حسب إرادة سيدنا.
32 - فإن كان أحد يحفظ سكون الأسابيع، ويعمل داخل سكونه بحفظ الحواس وقمع الأفكار كقدر قوَّته وحسب رتبته - لأن الله لا يطلب من الإنسان أكثر من قوَّته - ولكنه عندما يخرج إلى المجمع يوم الأحد, يجد أنه لا يأتي إلى قدام ولا ينجح في الحفظ وفي الأعمال ولا في محبة الثبات في السكون بالقلاية, بل كم من وقتٍ يخسر من النظر والسمع, ولا يقدر أن يثبت في الحرص, فتكثر عليه المجاذبات والانزعاج لأجل الأمور النافعة وغير النافعة, وينحط إلى الانحلال والكلام وبغض الثبات في القلاية, وتوسوس له الرخاوة أن يخرج ويدخل ويأكل ويشرب ويتحدث, فإن وجد ذلك فليسرع إلى السكون الكلي العادم من الدخول و الخروج .
33- و أما قول الأب أوغريس في أمر الوحدة : «جيدة هي الوحدة والانفراد», مع بقية كلامه: «ولكن فليحذر الأخ الذي لا يقدر أن يثبت قبالة التجارب الحادثة عليه في السكون, وليخرج إلى المجمع لئلا يتأذى في عقله», هذه الوحدة التي تكلم عنها ليست هي سكون الأسابيع, ولا السكون الكامل الذي يُمسك به البعض, بل إنه يقصد السكن في البراري والجبال الذي لا يليق لكل أحد إلا لأناس عارفين قد نجحت فيهم المعرفة, وتزايدت محبة المسيح في قلوبهم، واقتنوا صبراً واحتمالاً كثيراً.
34- لأن ثلاث حروب صعبة تلتصق بالتدبير المنفرد في القفر: الخوف المرعب في الليل، والضجر المحزن في النهار, وضلالة الشياطين وطغيانهم. هذه الثلاث حروب تأتي على الإنسان في البراري؛ فإن كان جاهلاً غير مدرَّب, وليس فيه حب لربنا, وصبره قليل، وليس له مرشد, فسريعاً ما يتأذى عقله. لأن صعوبة هذه الحروب الثلاث لا تحصل للإخوة الذين في المجامع الذين يحفظون سكون الأسابيع، ولا لذلك الوسطاني, حتى ولا السكون الكامل. وإن حدثت (هذه الحروب) لأحد منهم يقدر المرشد مع معونة الله أن يبطلها. ولهذا قال القديس أوغريس: «إن لم ينتفع الأخ من الوحدة (في البراري) فليرجع إلى سكون الأسابيع في المجمع»، وإنما يفعل ذلك برأي المعلم, وإذن المدبر, وبمشورة الآباء، وينتفع بصلوات إخوته. وإن لم يقبلوا منه في البداية فليداوم الطلبة إلى الله بحزن ودموع ليحرك في قلوبهم ما يليق بمنفعته. ولا ينبغي للإنسان إذا طلب شيئاً من ربنا أو من القديسين أن يظن أنه سوف ينال سؤاله سريعاً، بل عليه أن يداوم على الطلب مدة, وبعد ذلك تُعطى له, ولا يظن أنه إذا تأخرت عنه الموهبة أن طلبته ليست هي كإرادة الله.
35- وقبل كل شيء يحتاج الذي يجلس في السكون إلى هذه الثلاثة أشياء: الغرض المستقيم, وتكميل خدمة الأوقات, والمرشد. هذه الثلاثة أشياء لابد منها للمتوحد، وإن كان لا يقدر علي الدوام أن يكمل قانونه في الصلاة لأجل ضعف جسده أو من أجل ضجر نفسه، فليكن محترصاً بغرضه (المستقيم) وبوجود المرشد؛ لأنه إذا وُجدَ هذان الأمران فإنه لا ضعف الجسد ولا ضجر النفس يضر أو يعوق. كما قال مار أفرآم: «إن طريقنا لا ينجح بدون المرشد الذي قد وُضع من الله للذين يريدون أن يسيروا إليه. لأنه توجد معوقات كثيرة تولِّد الضلالة وتحير الذي يريد أن يمشي في طريق الفضيلة». 
36- ليس هناك تدبيرٌ يقبض العقل من العالم وينجيه من الخطايا مثل الهذيذ الدائم بالله. هذا العمل عسر هو جداً وصعب, ولكنه خفيف ولذيذ. وأنت أيها الأخ, إذا كنت تريد أن تكون في الهذيذ الدائم بالله, الذي هو حجاب الباب أمام كل الأفكار الفاسدة، فابدأ بكثرة الصلوات على الدوام. فالهذيذ الدائم بالله هو يجعلنا مداومين الصلاة. والصلاة أيضاً هي تحرك القلب للهذيذ بالله بغير فتور, وتجعل العقل سماوياً بالحركات الفاضلة. فالتعليم الإلهي والكلام الموافق لمخافة الله بالصلاة يُوجد.
 37- وبحسب ما تعلَّمنا من سيدنا في الوصايا التي قالها عن الصلاة وكيف ينبغي أن تكون حياة النصراني وما هو الذي ينبغي أن يطلبه في الصلاة, فإنه بالضرورة مثلما نريد أن تكون تدابيرنا هكذا ينبغي أن تكون صلاتنا. كما ينبغي أن تكون طلباتنا بحكمة عِلمنا, مُطيَّبة بالرجاء السماوي و بمفاوضة و معرفة أسراره .
38 - ولهذا فكل صلاة تكون هي أفهام على الحياة, كما قال المفسر: إنه بكل نوع يصلي العارف يأخذ الذهن فهماً ما - بحسب ترتيب العلم الإلهي - لكي يبعد عن اللحم ويرتبط بالهمِّ بالحياة وبالتقلب (أي التدبير) وتذكار الأمور المزمعة. لكي بنوع الصلاة بتعليمٍ عالٍ ومعرفة فاضلة عن الحياة غير المائتة، بربوات أفهام تختلج في ضميرنا, نفهم كيف نحن من الأرض بطبيعتنا, وبيد مَن ارتفعنا وتجنَّسنا به, وبأي أسرار تحكَّمنا بالفعل.
39 - فالصلاة تليق بالكمال, وهي استقامة الضمير, ووعظ الأنواع الحسنة, والحرية إلى الأمور المرتفعة, و هذيذ الروح وتذكار السمائيات والهمّ بالخفيات .
40 - الصلاة التي تكون من الحب تشجِّع الضمير, وتُلبس العقل قوة؛ لأن الرجاء يلهب ضمير الإنسان ليتجلد على الشيء الذي هو فيه, ويصبر على الضيقات وشرور الأرض, وإذا قايسها بالخيرات الموعود بها تكون عنده كلا شيء، ولذاك الشبه ينقلب (أي يتغير) بمرآة ضميره من وقت لآخر بنعمة ومعونة الروح والتشوق الإرادي.
41 - والصلاة الكاملة تنير طريق الصعود بما يفوق العالم, فتنتشي النفس بالسمائيات وترذل هذا العالم بمحبتها لله, وتتشجع على الحروب التي تقابلها. وبالصلاة تنحني النعمة التي تُسمَّى الملكوت, لكي بالحسِّ بها ننسى الأرض ونكون في سلام العقل بتلك الأسرار, وتقودنا لكي نعلم أن القوة هي من عند الله، حتى نتغير ونثبت في الأمور الفاضلة, وإذ نحن في الأرض يكون تقلُّبنا (أي سيرتنا) في السماء, فتجعلنا نحس أن لنا مُقوِّياً ومعيناً سمائياً غير منظور يعضدنا في كل وقت على ما يرفع طبيعتنا (إلى السماء). 
42 - وكما قال القديس مرقس: إن الذي يصلي بفهم ينبغي أن يصبر على جميع ما يأتي عليه؛ لأن هذا هو زيّ الصلاة أنها بالأفهام المدهشة تجعل العقل شجاعاً وغير قابل للآلام. وبحسب قول أوغريس: إن كل من يصلي بفهم فإن هذه الفضيلة تعدّه للجهاد مع الشياطين بواسطة فهم كلام الصلاة, وتشعله بمحبة أمور الدهر الآتي، والمعرفة التي فيها بأفهام الطبع تفصل العقل من اللحم (أي من الجسد). وقد أظهر هؤلاء القديسون الحروب التي تتحرك والتجارب التي تقوم على من يسلك في هذا الطريق، إن كان من الطبع أو من الشياطين أو من الناس. وقال أوغريس: إن المعونة التي يأخذها العقل بالصلاة تنمو بلذَّة الرجاء , وليست الحروب فقط تكون عنده كلا شيء, بل إنه يزدري أيضاً بالجسد الذي هو سبب القتالات.
43 - هذا هو تدبير الصلاة, وهذه هي منفعة الهذيذ الإلهي الذي فيها, وهذا هو العمل الكامل الذي يعمله الذهن في المصعد الإلهي (أي في طريق الصعود إلى الإلهيات). وهذا إنما يكون بالجلوس المنفرد والوحدة والبعد من جميع هموم العالم؛ لأن هذا يولِّد الهدوء وسكون القلب, لكي بمداومة الهذيذ بالله والسكون من الأفكار يستطيع الضمير أن يتفرس في كل أنواع الصلاة ويقتبس معرفةً عن الله, وبواسطة الألفاظ يكون الدخول إلى الأسرار.
44 - الصلاة بهذيذها كل وقت تقرَِّب العقل إلى الله, وتشجعه وتُنقيه بغياراتها, وتناوله القدس بهذيذها. هذا هو الهذيذ الذي يحبس كل هذيذ؛ لأنه بالضرورة يربط العقل ليستضيء بالخفيات الداخلية, ومنها تؤخذ معرفة الله, ومن هنا نحس بالفعل أننا بنو الآب السماوي, ورثة وبنو ميراث يسوع المسيح. وهنا نقول: «مَن يقدر أن يفصلني من حب المسيح، سيف أو نار...» وما تبقى, و«إني مصلوب للعالم والعالم لي».
45 - كل التماجيد تليق بالمسيح الذي بتدبيره بالجسد رفعنا من النظر للأرضيات, وأرشد عقلنا للمصاعد الإلهية التي تفوق العالم, وبمفاوضة الصلاة قدَّمنا لنظرة ملكوت السماء و الهذيذ الدائم بها. ذلك الموضع هو الذي نحن مزمعون أن نقدِّم فيه دائما السجود بالروح الذي ليس هو بمحدود لا بالجسد ولا بأقطار العالم ولا بالانحناء الظاهر, بل بعقل يتجلى بحركات الدهش به بلا انقطاع ودون انقضاء في بلد غير المتجسدين بذلك التدبير المرتفع عن طقس الصلاة. لأن الدهش هنا يكون عوض الصلاة، وعوض الإيمان الذي هو أجنحة الصلاة تكون النظرة الحقيقية التي هي مملكتنا ومجدنا, حيث يظهر لنا هناك أن الله ليس محتاجاً إلى تمجيد المخلوقين، بل هو في الحقيقة تنازلٌ منه لهؤلاء جميعهم ( أن يشاركهم في التلذذ بمجده).
46 - لأننا هناك نقبل حقيقة كل شيء عن الله, ليس عن طبيعته بل عن ترتيب عظمته ومجده الإلهي وحبه لنا, حيث ترتفع كل الحُجُب والأنواع وكل أشكال السياسة والتدبير من أمام العقل, ويتبين لنا أنه ليس لأجل طلباتنا يعطي مواهبه, ولا إنعامه بكيلٍ ومقدار, بل إنما جعل طلبتنا واسطة وزِىّ كلامٍ يوصل العقل إلى الطياشة في أزليته ومعرفة اهتمامه بنا.
47- فعندما نقبل (معرفة) تلك العظمة التي لم يدركها قط طقس الصلاة, ولا تَصور في العقل الطلب لأجلها؛ لأن الشيء الذي يقبله الناطقون لم يصعد على قلب إنسان, لأنه ليس في طبعهم معرفته حتى يطلبوه. ولكننا نفهم أنه بالحب يُعطى لنا إن كان هنا أو هناك, وقد جعل السبب (في هذا الإنعام) نحن, ولحسن سيرتنا قطع أن تكون مواهبه هي من أجل إنعامه الغزير.
48 - وعندما نأخذ معرفة هذه (الأمور) كلها, عندئذ نعرف الأبوة الحقيقية والحب والصلاح الأزلي، ونعرف أن الله غير محتاج إلى العالم ولا للتجديد المزمع ولا لملكوت السماء؛ لأن الملكوت والتنعم والنور هي طبيعته. ومن أجل جوده أتى بهذا كله (أي المخلوقات والعالم) للتكوين, فخلقنا ومن أجلنا خلق هذه كلها ليعطينا ملكوته ومجده وعظمته وكرامته وكل سلطان أزليته, ويجعلنا أزليين بلا انقضاء مثله، ولابسين نور حياتنا بغير انقطاع، وليس لأزليته انقضاء ولا لمملكتنا. المجد للذي بيده الجميع, والذي قدَّمنا لهذه الأشياء، وقد دعانا نحن ذوى الطبع المائت بنينَ للآب السماوي، وعرَّفنا بالذي هو منذ الأزل.