الكتاب الثاني
=======
أمراض أخري ساقته إليها البطالة و لم تنكشف إلا في السادسة عشرة من عمره
مصائب المعاشرات الرديئة التي انقاد بسببها إلي السرقة .
-1-
اندفاع القديس وراء شهواته
سأتذكر الآن شروري القديمة و شهوات نفسي الدنسة ،
لا لأنني أحبها و لكن لعلي أحبــك يا إلهـي حباً عظيماً .
سأتصفح في ذاكرة نفسي الحزينة الشرور العظيمة التي ارتكبتها لعلك تتراءف بي
( يا من لا تفني حلاوتك ، أيها المبارك يا من حلاوتك هي الحلاوة الحقة ).
أنت الذي أختطفتني من طرق الخلاعــة ،
التي كنت فيها تائها شريداً منصرفاً عنك ،
أيهـــــــا الإلـــــــــه الصــــــالح وحــــــده .
لقد أبحـــــث لنفســــــي كل منكـــــــــر ،
لأن نفســــــي كانــــــــــــت تميــــــــــــل إلـــــــــي الاستمتاع باللذات الدنيا ،
فتجرأت علي أن أنســاق في تيارها هائمـــاً بشتي الأوهـــام الحالكة الظلام ،
حتى ذبل جمالي و صرت مكروهاً أمامك لأن نفسي تلـــذذت بمحبـــة العالـم .
-2-
لقد كانت غاية مناي أن أحب و أن أكون محبوباً .
و لكني لم أجعل مقياس حبي هو الصداقة البريئة الممزوجة باحترام آراء الغـــير .
بل جعلــــت مقيــــــاس حبي هو شهوة الجسد الترابية و غرور الشباب الباطل ،
فأفسحت مجالاً في قلبـــــــي لحب الأحزان فتراكمت عليه ،
و فقدت القدرة علي التمييز بين :
بهـــــاء المحبـــــة النقــــي و ضباب الشــــــهوة الملوث ،
الذي كان يثير اضطـــــرابي و يدفع بشــــــبابي الســابح
فوق هوة الرغبات الدنسة إلي الغرق في خليج القباحة .
لقد تجمع علي غضبك و لم أدر به لأن أذنيَ قد صٌمتا برنـــين قيود الموت ،
الذي هــــــو عقـــــــــاب كل متكبر النفــس فــــازددت ضـــلالاً فوق ضلال .
أما أنت فقد بقيت صامتاً و تركتني أتخبط و حدي في المجـــون و العهــارة .
آواه يا إلهي ... يا نهاية أفراحي ،
لقد زادني صمتك في ذلك الوقت ضلالاً و بعداً عنك ،
و قد ضللـــــت أكــــــثر فأكــــــثر ،
عندما تشامخت بتلك الأحزان المرة عديمة الفــــائدة ،
التي ســـــببت كآبتــي و ضجــــري و اضطـــــــــرابي .
-3-
كلمة الله تخفف أحزانه الناجمة عن الاندفاع وراء الشهوات
آه يا ألهي ...
لقد أرسلت إلي في ذلك الوقت مَن لطف أحزاني ، و عَدد لي ما فقدته من جمال بشروري ، كي أعود و أسير في طريق الخير الذي خلقتنا لأجله ، فوضع هذا حداً لشهوات شبابي ، فلما لم أستطع أن أقمعها فكرت في أن أتزوج ، و عزمت فعلاً علي تكوين أسرة كما فرض ناموسك يا رب ، يا من اخترت هذه الوسيلة لتقيم من موتنا نسلاً ،
و أنت القادر أن تخفف بيدك الحنون وخز الأشواك التي طردنا بسببها من الفردوس .
إن قوتك يا رب ليست بعيدة عنــا ،
و نحــــــــــــــن لسنا بعيدين عنك ،
و كان يجب علي أن أحذر جيداً و أصغي إلي ذلك الصوت الآتي من السماء القائل :
" مثل هؤلاء يكون لهم ضيق في الجسد و أما أنا فأشفق عليكم .
حســـــــن للرجـــــل أن لا يمـــــــــس امــــــــــــرأة .
غير المتزوج يهتـــم فيمـــا للــرب كيف يرضي الرب ،
و أما المتزوج فيهتم فيما للعالم كيف يرضي امرأته " ( 1 كو 7 : 33 ) .
-4-
كان من الواجب أن أصغي و أن أنتبه جيداً لهذه الكلمات ،
و أن أنتظــــــر بكـــل ســـــــرور معانقـــــــــاتك لــــــــي ،
لأني كنت مفـــــــــروزاً لأجـــــل ملكــــــــوت الســـموات ،
و لكنـــــــــــي ... أنا الشــــــــقي المســـــــــــــــكين ...
قد أزبدت مثل بحر مضطرب تارة أعلـــو و طــوراً أنخفض ...
نابـــــــــذاً إيــــــــــاك متجـــــــاوزاً كـــــل أوامــــــــــرك .
و مع ذلك فلــــم أســـتطع أن أنجـــو من ســـياط تأديبك .
و لم يقـــــدر البـــــشر أن يعملـــــــوا بــــي شــــــــيئاً ،
لأنك و إن كنت صــــارماً معي ، فقد كنت رحيمــــاً بي ،
لذلك مزجــــت لذاتي المحـــــرمة بمــــــرارة الحــــــزن ،
كي أبحث عن لذة لا كدر فيها ...و لكن أين أجد هذا ؟
لم أجـــد هــذا إلا فيــك يا رب ،
يا من بأحــــــزاننا تدربنــــــــــــا ،
يا من تجرحنــــــا لتشـــــــــفينا ، و تميتنـــــا لتحيينــــا ،
حـتى إذا متنــــــــــا فإننـــــــــا ، لا نمـــوت بعيـداً عنك .
في أي مكــــان كـــــــــنت موجـــــــــــوداً ؟
و إلي أي مدي كنت منفياً عن مسرات بيتك .
عندما كنت في السادسة عشرة من عمري ،
خاضعـــاً لســـــــلطان جنــــون الشــــــهوة .
مطلقاً لجسدي العنان حتى تمرغ في الإثم مخالفاً شرائعك ؟
لقد أســـلمت نفسي لشــــــــــــــــهوات الجســــــــــــد ...
و لم يكـــن هنــــاك بين أصــــدقائي من يســــعي لإنقــــاذي
لأن كل اهتمامهم كان منصــــرفاً في أن أبرع في عـــلم الكلام
كي أصبح فيما بعد خطيباً يشار إليه بالبنان .
-5-
انقطاعه مؤقتاً عن الدراسة
في تلك السنة التي تلت عودتي من مادورا " كانت مدينة كبيرة في شمال أفريقيا و قد صارت الآن قرية صغيرة " و هي إحدى المدن المجاورة التي كنت أتعلم فيها علم البيان و الصرف في تلك السنة انقطعت عن دراستي مؤقتاً لأن أبي عجز عن تزويدي بنفقات الرحلة إلي قرطاجنة التي كان يريد أن أتعلم فيها لقد كانت نفقات الرحلة فوق طاقته لأنه لم يكن من الأغنياء بل كان من أحرار ( ساجستة ) الفقراء و مع ذلك فإن عجزه لم يمنعه من إعداد نفقات رحلة أخري .
لمن أقول هذا ؟ لست أقول هذا لك يا إلهي لأنك تعرف نسبي ،
و إنما أقول هذا لذلك العدد القليل من البشر الذي قد يعثرعلي كتاباتي هذه .
و لكن لأي ســـــبب أقـــول هـــذا ؟
إنني أقوله لكي يعرف من يقــــرأه ،
إنني كنت أصرخ إليك من الأعماق ،
لأنه ليــــس هنـــاك ما هو أفضــــــــــــــــل
و لا ما هو أقرب إلي أذنيك ،
مـــــــــــــــــــــن قلــب معــــــــــــــــــــترف ،
و حيــــــــــــاة مؤمنـــــــــة .
من لا يعظم أبي ؟ لقد تمكن بمهارته أن يمدني بكل ما يلزم كثيرين غيره من ضروريات لأجل الدراسة ، لقد توافرت لدي مواطنين كثيرين غيره إمكانيات مادية أكثر منه و لكنهم لم يصنعوا مع أبنائهم مثل ما صنع بي أبي ،
و مع ذلك فإن أبي لم يعبأ كثيراً بأن يجعلني واحداً من أبنائك الأطهار ،
حتى أنه بالـــــرغم من أننـــي قد صـــــــرت خطيبـــــــــاً مفـــــــــوهاً ،
فإننــــي كـــنت غير لائق لخدمتك يا الله ،
يا مــن أنت هـــو الحـــــق وحـــــــــــده ،
و الرب الصالح لأن يحتـــل سويداء قلبي .
-6-
في السادسة عشرة من عمري ، في تلك الفترة التي تعطلتها عن الدراسة بسبب حرج مركز و الدي المالي ، كنت أعيش مع أسرتي فازدادت وخـــزات الرغبـــات النجســــة ،
و تمكنت بشدة من نفسي دون أن تمتد يد لتخلصني منها .
لقد كنت في سن البلوغ ، و كان شبابي فائراً ، فكنت أذهب إلي الحمامات و هناك كان أبي يراني فيذهب إلي أمي مسروراً و يخبرها بفرح عما كان يشاهده ،
لقد كان يــــــود أن أشب علي شاكلته ،
فكانت تسعده تلك الاحساسات الرديئة التي كنت أشـعر بها ،
تلك الاحسـاسات التي جعـلت العــــالم ينساك أنت الخــالق ،
و يُفــــــــــتن بخليقتـــــــــــك عوضـــــــــــــــاً عنـــــــــــــــك ،
لقد ســــكرت بأبخـــــرة تلك الخمـــــــــر غـــــير المنظـــــورة ،
و تمكنت من نفسي مشاهد النجــاسة فخــررت ساجداً لها .
أما أنت فقد وضعـــــت من قبـــــل في قـــــــــلب أمـــي ،
أن تعدني لأكون هيكلك المقدس ، و بيتاً صــالحاً لسكناك ،
و لم يكن أبي قد تعمد بعد و إن كان قد ترشح أخيراً للعماد
لذلك كانت أمي منزعجة و خائفة خوفاً ظاهراً و مرتعــــــدة ،
لقد أزعجتها تلك الطرق الملتوية التي يسلكها من يديرون لك ظهورهم
رغم أنني لم أكن قد تعمدت .
-7-
ويلي …
لأنني تجرأت و قلت إنك لزمت الصمت يا إلهي ،
عندما تمـاديت أنا في ضـــلالي بعيــــداً عنــــك ...
أحقــــاً أنـــــك لزمـــــــت الصــــــمت نحــــــــــوي ؟
و لمن ســــواك إذن كانــــت تلك الكلمــــات التي ،
رنمت بها في أذني بواســــطة أمي المؤمنــة بك ،
دون أن يستقر في قلبي شئ منها لأعمـل به ؟ ،
... إنني أتذكر جيداً كيف أنها كانت بغاية اللهفة تنذرني في الخفاء قائلة :
" لا ترتكب فسقاً و علي الأخص لا تدنس أبداً زوجة رجل آخر " .
لقد كانت هذه الأقـــوال تظهر لي إنها نصــــائح نســـاء ،
و كان يجب علي أن أشعر بالخجل من نفسي إذا أطعتها ،
فلم أطعها لأنني لم أكن أعلم إنها إرشاداتك .
و هكذا ظننت أنك كنت صامتاً عني فكنت أهزأ بإرشادات أمي أنا أبنها ..
أنا أبن أمتك دون أن أعلم هذا .
لقد اندفعت بنزق و غباوة في طريق الفسـق ،
حتى إنه كان يخجلني أن أكون أقل أندادي فســقاً ،
و رغمـــاً من أنهم عندما كانوا يفاخـــــرون بفسقهم ،
كان مقامهم يزداد انحطاطاً إلا أنني تلذذت بصحبتهم .
لم أتلذذ فقط بالفسق معهم بل تلذذت أيضاً بالمــــديح ،
و لما لم يكن هناك ما يستوجب المديح سوي الرذيــلة ،
فقد بالغت في وصف الرذائل التي كنت أنسبها لنفسي ،
لقـــد صــــورت نفســـي بأشــــر ممـــــا كنت عليـــــــه ،
لكي لا أُذم حتى إنني في الوقت الذي لم أكن قد ارتكبت فيه شيئاً من المنكر ،
كنت أنسب لنفسي ما لم أعمله لئلا أُحتقر لبراءتي و عفافي .
-8-
لقد سرت مع رفقائي و ما أدراك أي رفقاء كانوا ؟ !
لقد ســـــرت معهـــــــم في شـــــــوارع بـــــــابل ،
و تمرغت في الحمأة كما لو كانت وادي أطياب و عطور ثمينة !
لقد ناء علي ذلك العدو الخفي بكلكله و أغواني حتى وصلت بسرعة إلي قرار الحمأة ،
و قد ساعد علي ذلك أن أمي بالجسد لم تكن معي ،
( لقد فرت هاربة من وسط بابل و لكنها لم تتقدم بسرعة إلي التخوم )
لكم نصحتنــــــي أمـــــــي أن أعيــــــــش طاهــــــــــــــراً ،
.. لقد علمت بســــلوكي مما ســــمعته من زوجهـــــــــا ،
و كانت خضوعاً منها له مضطرة لأن تغض الطرف عن كلامه
( إذ لم يكن من السهل و هي زوجته أن تعارض رغباته ) .
لقد كانت تفكر في ربطي برباط الزوجية علي أساس مكين .
و لكنها خشيت أن يكون في الزواج خطر عليَ و علي مستقبلي في ذلك الوقت ،
فلم تسارع إلي زواجي حتى لا تقف الزوجة حاجزاً و مانعاً يمنعني من تحقيق آمالي .
و لم تكن هذه الآمال هي آمال الدهر الآتي ،
بل كان أملها في أن أبلغ شأواً بعيداً في الحصول علي العلوم ،
التي كان أبي و أمي تائقين إلي أن أتعلمها .
إن أبي في ذلك الوقت لم يكن بعد قد فكر فيــــك ،
و كانت التصورات الباطلة هي التي يفكر لي فيها .
أما أمي فكانـــت تظـــن أن إقبـــالي علي العلم ،
يبعــدني عن الزواج و قد يقــــــربني قليــلاً منـك .
هذا هو الترتيب الذي أعده لي والدي و الذي لا زلت أتذكره جيداً .
لقد كانت الأعنة إذ ذاك مرخاة لي و كان يجب قمعي بكل شدة ممكنة ،
لكي لا أضيع وقتي في الطرب و المجون و في كل ما كــنت أشـــــتهيه .
في سحابة هذه الأوهام كلها احتجب عني ضياء حقك ،
يا إلهــــــــي فأفتضـــــــح إثمــــــي و كــــان عظيمـــــاً .
-9-
كيف كنت أسرق الكمثري ؟
ليس ناموسك فحسب هو الذي يعاقب علي السرقة ، و إنما أيضاً الناموس الطبيعي المطبوع علي قلوب البشر لا يقر هذا الإثم، فأي لص يقبل أن يساكن لصاً ؟ و أي لص ثري يسلب عن غير احتياج ؟ و مع ذلك فإنني اشتهيت أن أسرق فسرقت ,لم أكن مسوقاً إلي السرقة بدافع الجوع أو الفقر و لكن بدافع حب الإثم ، لأن ما كنت أسرقه كان لديَ منه الكفاية بل ما هو أفضل منه ، لذلك لم يكن يسعدني ما أسرقه بل كانت سعادتي بالسرقة ذاتها و بالإثم نفسه .
هناك بالقرب من كرمنا كانت توجد شجرة كمثري مليئة بالثمار التي كنت مغرماً بسرقتها ! ! إنني لا أعلم السر بغرامي في سرقة هذه الكمثري !!؟ أكان ذلك راجعاً إلي جمال لونها ؟؟ أم لذيذ طعمها ؟؟
ففي ليلة ليلاء بعد أن تجولنا حسب عادتنا في شوارع المدينة متنزهين إلي وقت متأخر مضيت مع بعض أتباعنا إلي الشجرة و سرقناها و حملنا منها أحمالاً ثقيلة لا لنأكلها ولكن لنرميها بعد أن نتذوقها الخنازير . هكذا كنا نسرق لا لسبب إلا لكون السرقة أمراً ممنوعاً ! .
ها هو ذا قلبي يا اللـــــــــــــــــــه !
ها هو ذا قلبي الذي رحمتــــــــه !!
لقد كـــان فـي قــــــاع هــــاوية لا قـــرار لها فدعه ،
- بعــــــد أن تنظـــــــــر إليــــــــــــه -
أن يخبرك عما كنت أبغيه بهذا العمل ،
حتى كنت أقدم علي ارتكابه مختاراً ،
و رغم عــــدم ميلي إلي الشـــــــــر ،
فقــد طلــــــبت الشـــــــر بعينـــــــه ،
لقـــد كان شراً و مع ذلك أحببتــــه ! !
لقـــد أحببـــت أن أهـــــــــــــــــلك ! !
لقـــد أحببــت إثمــــــي الخــــــاص ،
ليـس الإثم الذي استحققت اللوم بسببه ،
بــــــل أحببــت الإثــــــــــم نفســــــــــــه .
نفس شريرة ساقطة من علياء سمائك لتنشر الهـــلاك ،
غير باحثــــــــــه عما قد يُخجل بل طالبة الخجل نفسه .
-10-
لماذا يطلب الناس الأدنى ويرفضون الأسمى ؟
إن للذهب و الفضة و غيرها من الأشياء الجميلة جاذبية تأسر النفوس لذلك تتأثر الشعور بلمسها كما يتأثر بها بقية الحواس بحسب ما تجد فيها من مآرب خاصة ..
كذلك للمجد العالمي وحب السيطرة و الاعتزاز بالنفس لها أيضاً جمالها .
و كذلك للانتقام دوافعه و مراميه فليس من يسعي إليه بلا سبب .
و لا يتأتي للإنسان أن يصل إلي بغيته من هذه الأشياء جميعاً ،
ما لــــــــم يخالفـــــــــــــك و يعــــــــرج عــــــن ناموســــــك ...
إن لهذه الحياة التي نحياها سحراً خاصاً في بعض المناسبات الخاصة
و ذلك عندما تقترن بها تلك الأشياء الجميلة .
كذلك للصـــــداقة البشـــــــرية جمــــــــالها ،
و لا يكون ذلك إلا عندما ترتبط أرواح الكثيرين برباط متين توحد بينها ..
هذه الأشياء جميعاً هي ســـبب الخطيئة و بســـببها يرتكب الإثم ..
لأننا عندما نهــوي هذه الأشياء الجميلة الدنيئة ،
نرفـــض ما هـــو أفضـــــــــــل و أســـــــــــمي ،
الــــذي هـــــــو أنـــت أيهــــا الــــــرب إلهنـــــا .
و نرفــــــــــــض حقـــــــــــك و ناموســـــــــــك .
إننا نســـــر بهــــــذه الأشــــــياء الصغــــــرى ،
التي لا يمكن أن يعد السرور بها شيئاً مذكوراً ،
إذا قيـــــــــــس بســــــــرورنا بخــــــــــــالقها ،
الذي به يبتهج البار و هو فرح مستقيم القلب ! .
-11-
لو قال قائل إن حب هذه الأشياء الدنيا يسبب الشر ، فإننا لا نصدقه إلا إذا لمسنا الشر بأيدينا لأن الفائدة التي نرجوها من وراء هذه الأشياء حتى و لو كانت قليلة تحببنا فيها ، فنخاف أن نفقدها مع ما فيها من حُسن و جمال ، و مع هذا فإننا إذا قارنا فوائد هذه الأشياء بالفوائد الأكثر سمواً و بهجة فإنها تكون حقيرة و دنيئة ،
لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ؟؟؟
إنه يقتله إذا هام بزوجته ! أو طمع في عقاره أو أختلس شيئاً من ماله لأجل معيشته أو هاجمه قاصداً الإساءة إليه ، و لكن أيمكن أن يرتكب أحد الناس جريمة قتل بلا سبب و لمجرد السرور فقط بالقتل؟ من يصدق هذا ؟ ...
إن الإنسان الشرير و الجائر الذي يقتل عندما يثور بوحشية من تلقاء نفسه إنما يفعل ذلك لأنه نشأ شريراً عاطل اليد و الفكر . و لكن إلي أي مدي يندفع في طريقه ؟؟
لا شك أنه إذا هاجم مدينة من المدن فإن شروره لن تقف إلا إذا أستولي عليها و اغتصب مُلكها و غنم كل ما فيها و شعر بأنه قد أصبح بعيداً عن سطوة القوانين و ارتباكات الضرورات العائلية و إحساس الشعور بالمسئولية . لذلك فإن ( كاتلين) لم يحب شروره و لكنه ارتكبها لسبب أخر .
-12-
لماذا أحب سرقة الكمثري ؟
ماذا أحببت فيك - أنا التعيس - أيتها السرقة يا صنيعة غبائي ؟!
أنت لم تكوني حسنة لي - عندما كنت في السادسة عشرة من عمري - لأنك أنت هي السرقة . و لكن كيف أخاطبك هكذا ؟ أأنت شئ حي ؟ ؟ …
إن الكمثري التي كنا نسرقها كانت جميلة
لأنها خليقتــك يا الله ،
و أنت أبهـــــــي الكل ، خـــــالق الكــل ،
أنت الإله السامي الصلاح و صلاحه حق …
جميلة كانت تلك الكمثري ، و مع ذلك فإن نفسي الشقية لم تمل إليها لقد كنت أجمع أجمل ما علي الشجرة لمجرد السرقة و بعد أن أجمعه كنت ألقي به للخنازير، و كانت لذتي الوحيدة في هذا كله هو إثمي الذي كنت في غاية السرور لأن أتلذذ به و الذي لم أكن أشعر بعذوبته إلا عندما أضع الكمثري في فمي .
و الآن إني أتساءل أيها الرب إلهي عما سرني في السرقة التي لم يكن لها أي جمال ,
و لست أعني بالجمال مثل ذلك الجمال الذي في الحق و الحكمة ،
أو ذلك الجمال الموجود في العقل و الذاكرة و العاطفة و حياة البشر الحيوانية ،
أو ذلك الجمال الموجود في النجوم البهية التي تتلألأ في أبراجها ،
أو ذلك الجمال الموجود في الأرض و البحر المملوئين بأجنة الحياة ،
و التي تستبدل بتناسلها نسلاً جديداً عوضاً عن ذلك النسل الذي يفني ،
و لا أيضاً ذلك الجمال الخيالي الكاذب الذي يكون في ارتكاب بعض الرذائل الخاصة .
-13-
أنت وحدك يا الله هو الإله المتسامي فوق الكل .
و مهما تكبر الإنسان فإنه لا يمكن أن يدانيك في سموك .
إن الطموح يدفع الإنسان للسعي وراء الكرامـــة و المجــــــد ،
و لكن أنت وحدك الممجد و المكرم إلي الأبد فوق كل الأشياء .
إذا قسي العظيم فإن قسوته تقابل بالاستسلام و الطاعة .
و لكن من يجب أن يُطاع بسرور و استسلام سواك وحدك يا أعظم العظماء ؟ !
يا من لا يقدر أحد أن يغتصب حقه في أي زمان و مكان ،
إذا تحنن الظـــالم فإن حنـــــوه و عطفــــه يدعي محبــة .
و لكن أيوجد ما هــــو أكــــثر حنـــــــاناً مــــن محبتـــــك ؟
أيوجد شـــئ يمكـــن أن يُحــــب كمـا يجــــــب ،
أن يُحب حقك الذي يتلألأ ساطعاً فوق الجميع ؟؟
الرغبة في المعرفة و الرغبة في التعلم متشابهتان ،
و لكن مهمــا بلغ الإنســان من العــــلم و المعـــرفة ،
فلا يمكــــن أن يصــل إلي ســــمو معــــــــــــرفتك .
الغباء و الجهل يستتران تحت أسم الوداعة و عدم الرغبة في إيذاء الغير
و لكن أيوجد هناك ما هو أكثر منك وداعة يا أيها العالم بكل شئ ؟؟
مهما قل الضرر الذي يصيب الخاطئ فإن ضرره لا يتأتي إلا من أعماله .
الكســـل يدفع الإنســــــان إلي طـــــلب الراحـة ،
و لكن أين توجد الراحة الدائمة إلا بقربك أيها الرب ؟؟
لا تلـــــــذذ إلا فـــــــي الراحـــــــــة و ســـــــــــعة العيـــــــش ،
و لكن أنت وحدك كمال الكثرة غير الزائلة للملذات غير الفاسدة .
التبــــــذير يشـــــــــــير إلي الســــــخاء ،
و لكنك أنت المعطي كل صلاح بأكثر وفرة .
الطمع يجعل الإنسان يشتهي امتلاك أشياء كثيرة ،
و لكنك مع كونك لست طماعاً تملك كل شــــــئ .
الحسد يجعل الإنسان يحسد أخاه الإنسان لأجل الفخر ،
و لكن أي فخر يعادل فخارك أنت الذي لا يحسدك أحد ؟؟
الغضــــب يولــــد في النفــــس الرغبــــة في الانتقـــــــام ،
و لكن من يقدر أن ينتقم بحق أكثر منك أيها المنتقم الجبار ؟؟
الخوف يجعل الإنسان قلقاً بسبب كل أمر مفاجئ غير مألوف
فيتبصر في العواقب لضمان السلامة ،
و لكن هل يوجـد ما يفاجئـــــــــــك ؟؟
أو ما هو غير مألــــــــــوف لديــــــــك ؟
و هل يستطيع أحد أن ينزع منك ما تحبه ،
يا من لا توجد السلامة الدائمة إلا بقربه ؟؟
الحــــــزن يكــــــون بســـــــــــبب الحســـــــــــــــــرة ،
علـــــــي ما فُقــــــد مع ما فيــــه من بهجـــة و لـــذة ،
فهل تساوي هذه البهجة و اللذة بهجة و لذة جمالك ؟.
-14-
كل نفس تبتعد عنك ترتكب الفسق و تطلب الدنس و الفساد حتى تعود إليك .
الذين يسيرون في طريق الفساد يشبهون الذين يحيدون بعيداً عنك و يحاربونك .
و كل من يتشبهون بك يفتخرون بأنك خالق الكون ،
و لا يعرفون مكــــاناً يلتجئـــــون إليه بعيـــــداً عنك .
إذن ماذا أحببت فيك أيتها الســـرقة ؟
و في أي شئ بارتكابك شابهت ربي ؟ ..
أكان ذلك لأني أردت أن أظهر قدرتي علي كسر ناموسك فسرقت ؟ ؟
أم كان ذلك لأنني و قد كنت مغلوباً علي أمري .
و لم أجـــد ما أســـتطيع أن أقــــلدك فيــــــه ،
إلا أن أعمل سدي مل لا يسوغ لي أن أعمله ،
و أمثــل تلك المهــازل متمتعــاً بحرية مشلولة ،
ما كــان مـــــن حقـــــي أن أتمتـــــع بهـــــــا ،
قاصداً بهذا أن يكون لي صورة غامضة من جبروتك !؟
ها هو ذا خادمك قد هرب من سيده بعيداً عن كل شــر .
آه من فساد الحياة و وحشتها ، آه ما أعمـــق المـــوت !!
لقد قدرت أن أحب ما لم أكن أحبه لأنني لم أقدر أن أحبه .
-15-
بماذا أكافئ الرب ؟
لأن نفسي الآن تتذكر هذه الأشياء جميعها ، و مع ذلك لا أخاف منها ؟؟
أحبك يا رب و أشكرك و أعترف لأسمك لأنك قد غفرت لي هذه الكبـائر .
لقد ذابت آثامي كما لو كانت ثلجــــــاً بفضل حرارة إحسانك و رحمتـك .
لإحسانك الفضل فيما لم أفعله من شر .
لأن كل ما لم أفعــــله من شر لم أفعــله إلا بإرشــــــــادك .
لأنه من هو الإنسان الذي يتجاسر - رغم إحساسه بضعفه -
أن ينســـب إلي نفســــه الفضـــل في طهارته و بــــــره ؟؟
و مــن يفعــــل هــذا إلا غير المحتــاج إلي رحمتك ،
التي تغفــــر بهـــــا آثـــــــــام الخطــــاة التــــــائبين ،
لذلك فهو لا يحبك كثيراً بل يحبك أقل من كل شئ .
لا تجعل كل من تدعوه و يتبع صوتك و يتجنب ارتكاب ما قرأه عن تلك الخطايا التي أعترف بها أمامك ، لا تجعله يحتقرني أنا الذي كنت مريضاً فشفاني ذلك الطبيب الذي صرت بمعونته كأنني لم أكن مريضاً أو بالأحرى صرت أخف مرضاً ...
دع الإنسان الذي يقرأ هذا يحبك كثيراً !!
بل ليزدد حبه لك أكثر جداً عندما يراني ،
و قـــد شـــــــتـفيت مــن إثمي العميق ،
لأنه ســـــيري نفســـــــه أيضـــــــــــــاً ،
و قد شفي بواسطتك من إثمه المماثل لإثمي .
-16 -
ماذا جنيت - أنا الإنسان الشقي - من وراء تلك الأشياء التي ذكرها يبعث الخجل في نفسي و خصوصاً تلك السرقة التي أحببتها لذاتها دون أن يكون فيها ما يعتد به ، و مع ذلك فلي أرتكبها بمفردي أجل !
إنني لم أكن أسرق في ذلك الوقت بمفردي بل كنت أسرق مع آخرين حتى أحببت في السرقة محفل رفقاء السوء الذين كنت أسرق معهم إنني لم أكن أحب شيئاً حينذاك أكثر من السرقة وحدها . أفلم يكن إذن لظروف الصداقة المقترن بها وزن أو اعتبار ؟؟
لا يقدر أن يدلني عن هذا إلا ذاك الذي يضئ قلبي و يكشف ما بأركانه الظلمة لأستطيع أن أفحص ما بعقلي و أحلله و أتأمله إذ إنني لو كنت في ذلك الوقت أحب الكمثري التي أسرقها لأتلذذ بها لسرقتها بمفردي ، و لو كنت أسرق بدافع الحاجة لاكتفيت بسرقة ما يكفي لإشباع نفسي دون أن أكون في حاجة لأن ألهب شوق رغباتي بشغف رفقاء السوء . و لكن الحقيقة أن لذتي لم تكن في الكمثري بل في نفس الضرر الذي يسببه محفل رفقائي المجرمين .
-17-
أي شعور إذن كان هذا الشعور ؟ إنه بلا شك كان شعوراً معيباً جداً !
فويل لي لأن هذا الشعور كان شعوري . أي شعور كان هذا الشعور ؟
من يقدر أن يعرف آثامه و خطاياه ؟ لقـد ملأ الطرب قلوبنا فخدعنـــا !!
و لو أننـــا فكـــرنا قليــــلاً فيمـــــــا كنا نفعــله لاشــمأزت نفوســنا ..
لمــــــاذا إذن كانـــــت لذتي العظيمـــــة في أن لا أســــــرق وحــــــــدي ؟
السبب في ذلك هو ما جرت عليه العادة في أن من يضحك لا يضحك وحده.
هكذا جرت العادة و مع ذلك ففي بعض الأحيان يغلب الضحك علي البشر فرادي
إذا ما خطر علي الشعور أو البال شئ مضحك جداً و مع ذلك فإني لم أسرق وحدي !!
وحدي لم أسرق أبداً وها هي ذي أمامك يا إلهي الصورة الواضحة لنفسي .
لم أرتكب أبداً السرقة منفرداً و ما سرقته لم أتلذذ به و لكنني تلذذت لأنني سرقت.
إن السرقة وحدها لم تحببني في ارتكابها و لم أحب أنا وحدي أن ارتكبها .
آه من التواد الذي بلا وداد كهذا !!
أنت أيتها الشهوة لا يمكن إدراكك .
إنك تغرين النفس و تصنعين من المـــزاح و السرور شــــروراً ،
إنك ظمأى لهلاك الآخرين دون فائدة ترجي ، أو انتقام يبغي ،
و لكن عندما كان يقــــال لنا ( دعنا نذهب ، دعنا نسرق )
فإننا لم نكن نستحي أن نكون بلا حياء .
-18-
يا لهــــا من مشـــــاكل ملتـــــوية عســـــيرة الحــــــل .
إنها تقف في طريقي لذلك أكره أن أتأملها أو أفكر فيها .
إنني مشتاق إليك يا الله أيهـــا البر و الطهارة ،
لأنك جميل و ظريف لكل العيون الطــــــــاهرة ،
و لا يمكـــــــــــن أن يشــــــبع أبــــداً منــــك .
فيـــــك الســــلام التــــــــام و الحيـــــاة الدائمـــــــة ،
و مـــــن يدخل إليك يدخل إلي فرح سيده بلا خــوف ،
و يصــــــير فاضــــــــــلاً في الله فائــــــــــق الكـــــل ...
لقد تذللت بعيـــداً عنك و تهت و ضــللت كثيراً - يا عضــدي -