الكتاب الثالث
- إقامة القديس في قرطجنة عندما بلغ السابعة عشرة من عمره
و ظل فيها حتى التاسعة عشرة .
-1-
( أوغسطينوس يبحث عن العشق )
2- مصادر ارتباكاته : -
أولا - حــــــــــــــــــــــــــب المنـــــــــــــــــاظرات .
ثانياً - التقـــدم في الدراســــات و محبــة الحكمة .
ثالثاً - عـــــدم التـــــلذذ بالكتـــــــاب المقــــــدس .
رابعاً - الضلال مع المانويين ودحض بعض عقائدهم .
3- حزن أمه مونكا علي ضلاله .
4- صلــــواتها من أجــل هدايته .
5- الله يوحي لها بهدايته في حديث لها مع أحد الأساقفة.
-1-
( أوغسطينوس يبحث عن العشق )
فـــــــــــي الســابعة عشرة من عمـري ذهبت إلي قرطجنــــــــة ،
و قد كانت تدوي في أذنيِ مجموعة من أصوات غرامياتي الدنسة ،
و مع أننـي لم أكــــن قد وقعـــت فـــي شــــــــــباك الغــــــــرام ،
إلا أننــــي رغبـــت في أن أعشق حتى كرهــــــــــت حيـــــــاتي ،
لأنني لم أجد فيها ما أعشق رغم إنــي أبحـــــث عن العشــــق ...
لقــــــــد أبغضــــــــــــــــــــــــــــــــت أن أهيـــــــــــــم بالعشـــق ،
و أبغضــــــــــــــــــــــــــــــــت كل طـريق توجد فيه مكائده ،
لأنــــــــه كــــــــــانت توجـــــــــد فـــــــي نفســـــي مجـــــــــاعة ،
إلـي ذلك الطعـــــــام الروحـــــي الذي هو أنـــــــت يا إلهــــــــــي .
و مع ذلك فإنني لم أطــــلب هذا الطعـــام ،
لا لأنه كـــــان لـــــدي منه ما يكفينـــــــي ،
بل لأننــــــي لم أكــــــن أشــــــــــــــتهيه ،
لم أكن أشتهي ذلك القوت الذي لا يفني ،
بل اشــــتهيت كل ما كــــــــان باطــــــــلاً ،
لأن نفسي كانت عليلة و غارقة في أحزان كثيرة .
لقد ابتعدت نفســي التعيســــــــة بعيـــــداً عنك يا إلهــــــــــــي !
لقد ضلت في هوي حواسها ، تلك الحواس التي كانت بلا روح .. !
إن لـــــذاتي كــــــــانت فـــي أن أعشــــــــــــق و أُعشـــــــــــق ،
و كانت هذه اللذة تزداد كلما كنت أخضع نفسي لشهوات الجسد ،
و دنست أصل الصداقة و بهائهـــا بنجاســة الشـــهوة و سعيرها ...
و هكذا كنت أنا التعيــــس القبيح أفٌرَح نفسي بلا لياقة لأكون محتـــــالاً ،
و لأكون أديباً في الزهو الفائق حتى لقد سقطت بنزق في شراك الهوى ،
الذي اشتهيت أن أقع فيه و بلغت أقصي ما كنت أتمناه من متعة جسدية .
و لكنك يا إلهـــي يا رحمتي قد مزجت هذه المتعــــة بمـــرارة لطفــــتك ،
و أوثقتني بأربطة الحـــــزن ، فتمنيت أن أجلد بسياط ملتهبة من الحديد ،
لتحترق أغصان الحســــــد و الشكوك و المخاوف و السخط و المنازعات .
-2-
( الأحزان التي تسببها التمثيليات المسرحية )
كم من أفكار محزنة كانت تجيش بنفسي بسبب تلك التمثيليات التي كنت أشاهدها علي المسرح ، تلك التمثيليات التي سلبتني شقاوتي ، و خففت من وقيد تأججي.
يرغب الإنسان في بعض الأحيان أن يبدو كئيباً شاغلاً عقله بتلك الأفكار السوداء التي تؤلم نفسه و تثيرها فيها مشاهدة هذه الروايات المحزنة حتى تكون لذته في الحزن الذي ينجم عن المشاهدة . لماذا كل هذا ؟
أليس هذا نزق وضيع لأنه كلما ازداد الإنسان تأثراً بما هو محزن فقلما يستطيع أن يحرر نفسه من العواطف الحزينة ، و كلما تألم في نفسه فإن نفسه تستعذب التعاسة و الألم ،
و كلما أشفق علي آخرين فإنه يصبح رحيماً !! ولكن أي حزن و أي شفقة تسببها تلك الآلام المسرحية الملفقة ؟؟
* * *
إن الإنسان عندما يدعي لمشاهدة تلك الروايات ، لا يذهب إليها ليروح عن نفسه بها و لكن لقبضها . و كلما زيد في مدح ممثلي تلك الخزعبلات كلما ازداد انقباضها و إذا كانت مصائب أشخاص الرواية - سواء أكانوا خياليين أم حقيقيين - لا تهيج الدمع في مقلتيه ،
فإنه ينطلق بعد مشاهدتها ، ضجراً مندداً بها .
-3-
و لكن أهكذا يحب الإنسان تلك الأحزان ؟ الواقع أن الجميع يحبون الأفراح و لا يوجد إنسان يرغب في أن يكون تعيساً ، بل كل إنسان يرغب أن يكون مسروراً و مع ذلك فإنه يحب أيضاً أن يكون رحيماً . و لما كان لا يمكن أن يثير الرحمة في قلب الإنسان سوي آلام أخيه الإنسان لهذا فإن الإنسان يحب هذه الآلام ، التي تثير الرحمة في قلبه .
و لكن هذه الرحمة التي تثيرها الآلام الملفقة أيمكن أن تكون قد نبعت من شريان الصداقة ألحقه ؟ لا يمكن هذا لأن منبع هذه الرحمة هو المجاري غير الطبيعية للشهوة الدنسة التي تغير الصداقة و تدنس بهاءها الفائق فتجعل الإنسان يحب مشاهدة آلام الغير و أحزانهم لأنها تثير الحزن في نفسه ...
أحذرى يا نفسي الدنس لأنك تحت حراسة إلهك ، إله آبائنا ،
الذي به يليق التسبيح و التعظيم إلي الأبد فوق كل شــئ .
لذلك فاحذري الدنس .
* * *
إنني إلي الآن لا أكف عن الرثاء من أجل ذلك الوقت الذي كنت أبتهج فيه مع العشاق الذين يمثلون فوق المسارح عندما كنت أراهم فرحين باجتماع شملهم حتى إذا افترقوا
و أضناهم الفراق و أحزنهم ، حزنت أنا أيضاً معهم ، لقد كنت أتلذذ بالفرح و الحزن علي حد سواء ، مع أن هذا كله تمثيل و هراء في هراء …
إنني الآن لا أحزن علي الإنسان الذي يظن أنه يتألم لفقده لذة قصيرة أو مسرة صغيرة قدر حزني علي ذلك الإنسان الذي يفرح بفجوره ، و حزني هذا ليس مصدره الحزن و لكن مصدره الرحمة الحقيقية .
إن الإنسان الذي يحزن مع الحزانى يٌمدح علي عمله باعتباره رحمة !!
و مــــع ذلك فإن هــــذا الإنســــــان لا يُعـــــــــد رحيماً حقــــــــــــاً ،
إلا إذا كان حـــزنه من أجل أحــــزان الغير صــــادقة و بنية خـــالصة .
الأمر الذي لا يكون عندما يتمني أن يوجد الحزن كي يحزن من أجله ...
أنت وحدك أيها الرب الإله هو الذي يحب الأرواح أكثر من حبنا لهــا ،
و ترحمهـا رحمــــة دائمـة لأنـــــك تحبهـــــــــا حبــــــــاً طــــــاهراً ،
إلا أنها مع ذلك تجلب لنفسها الأحزان ( و من هو كفء لهذه الأمور ) .
-4-
لقد كانت نفسي - أنا التعيس - تبحث في ذلك الوقت عما يحزنها ،
و تحب أن تكتئب من أجل كآبة غيرها ، تلك الكآبة التي تلفق تلفيقاً و تمثل تمثيلاً يسيل الدمع من العين إلي أكبر حد . فمثل هذا التمثيل هو التمثيل الذي كنت أشتاق إليه كثيراً .
لذلك فلا عجب أن يضل ذلك الحمل - الذي هــــو أنـــــــا -
من قطيعك و يجزع من حراســـــتك و يمرض بأمراض قبيحة .
لقد أفسدته محبــــة الأحـزان ،
و سيطرت علي نفسه الرغبة
في مشـــــــــــــــاهدة الآلام ، حـــتى أنـــــــــه :
عندما كـــــان يســــــمع هذه الخزعبــــــــــــــلات ،
التي تنشب مخالبهـــــــا المسممة في وجهـــــه ،
كانت نفسه تنتفخ انتفاخاً و تلتهـــــب التهـــــــاباً ،
حتـــــــــى يصـبـــــــــــــح كقـــــرحة عفنــــــــــــة .
فهل كانت مثل هذه الحياة معتبرة حياة يا إلهي ؟؟
-5-
و مع ذلك فإن رحمتك الصادقة قد رفرفت عليَ من بعيد ...
لقـــــــــد أفنيـــــت نفســي فـــي خطـــــايا أليمــــــــة ،
لقـــــــــد نبــــذتك و انتهكـــــــــت حــــرمة مقدســـاتك ،
و أشبهت المشـــترفين علي هــــــــــاوية المــــــــــوت ،
و عبادة الشياطين الخادعين التي قدمت سيئاتي ذبيحة لهم !!
و مع ذلك كــــــله فإنــــــــك لم تنســـــني ، بل عاقبتــــــني .
بينما كان أبناؤك يحتفلون بخدمة الأسرار المقدســــة داخل كنيستك ،
تجاسرت و عملت عملاً استوجب قصاص الموت من أجل نتائجـــــه ...
و لكنك لم تميتني بل عاقبتني بعقوبات صارمة .
و لكن تهــــــون بجــوار خطيئتــــي .
إنك رحمتي الفائقـــــة يا إلهــــي...
إنك منقــــــذي :
من كل تلك المهـــالك الفظيعـــــــة ،
التي كنـت فيها هائماً برقبة غليظة ،
و مبتعــداً بعيــــــــــــــداً عنــــــــك ،
عاشـــــقاً طـــــــرقي لا طــــرقك ،
عاشـــــقاً حـــــــــــرية زائفــــــــة .
-6-
اشتغاله ناظراً لمدرسة البيان
إن البشر الأغبياء لم يكن لديهم من الدراسات ما يستوجب المدح و الثناء سوى تلك الدراسات التي قصد بها التفوق في ميادين المجادلات ، حيث يكون أكثرهم خبثاً هو أكثرهم مدحاً . إنهم لغباوتهم يفتخرون بجهالاتهم ...
لقد كنت في ذلك الوقت ناظراً لمدرسة البيان فانتفخت أوداجي و كنت أتيه عجباً . و مع أنني كنت بعيداً عن تخريبات المخربين ( لقد كانت خطيئة التخريب دليل الشجاعة في ذلك الوقت ) الذين كنت أعيش بينهم إلا أنني لم أكن مثلهم ، ملطخاً بالعار بلا خجل .
لقد كنت أعيش بين هؤلاء مسروراً بصداقتهم ، و لم أبغض أبداً أعمالهم أو تخريباتهم عندما كانوا يمزحون بالاعتداء علي عفة الغرباء ، مشبعين رغبات الشر الكائنة في نفوسهم ، بأعمال ليس هناك ما يشابهها سوي أعمال الشياطين أنفسهم ، فهل هناك لفظ يستحق هؤلاء أن نطلقه عليهم سوى لفظ ( المخربين ) لأنهم كثيراً ما خربوا ، لقد كانت أرواح الظلمة تسخر بهم في الخفاء وتضللهم ، وكانوا يبتهجون بأن يسخروا من الآخرين و يخدعوهم.
-7-
ما سببته دراسته للفلسفة
في وسط تلك الأمور و في ذلك السن المضطرب ، حفظت كتب البلاغة ،
و تمنيت أن أكون مشهوراً في غرض غير مجيد و مرذول ، في الفرح بأباطيل البشر .
و في أثناء فترة الدراسة السنوية هاجمت كتاباً لسيكيرو الذي كان كل حديثه
- تقريباً - حكماً . هكذا كان حديثه و أما قلبه فلم يكن كذلك .
لقد كان هذا الكتاب يحوى أسرار الفلسفة و كان يدعي (هورتنسنس) .
هذا الكتاب غير أميالي . و أعاد صلواتي إليك يا إلهي ، و جعلني آمل في آمال أخري .
لقد صارت الآمــــال الباطـلة خسيســـــة أمامي .
و اشتهيت برغبة لا تُُصدق أن تدوم لي الحكمـة .
فابتــدأت أن أســــــــــتيقظ لعــلي أرجـع إليـــك ،
لقد استخدمت هذا الكتاب انتفعت بموضوعه دون أسلوبه ،
حيث كنت في سن التاسعة عشرة من عمري و كان أبي قد مات منذ سنتين .
-8-
في ذلك الوقت التهبت نفسي بالرغبة في أن أرتقي إليك و أن ارتفع فوق هذه الأشياء الأرضية دون أن أعلم ما أردت أنت أن تفعله بي ... إن معك الحكمة ، و محبة الحكمة تدعي باليونانية ( فلسفة ) و تلك هي التي أضرمني بها ذلك الكتاب ... و مع هذا توجد في الحكمة أشياء مضللة مخيفة تحت أسماء شريفة و عظيمة و هادئة لتحجب ما فيها من أخطاء .
حتى إن كل الذين عاشوا في تلك الأحقاب و ما قبلها لم يجدوا ما يخفون به أخطاءهم سوي ستار الفلسفة و إن كانت الفلسفة في ذلك الكتاب ملومة لوماً واضحاً .. في ذلك الكتاب قد فسرت تلك النصيحة الشافية التي لروحك بواسطة خادمك الصالح و التقي الذي قال:
( انظروا أن لا يسبيكم أجد بالفلسفة و بغرور باطل حسب المسيح الذي فيه يحل كل ملء اللاهوت جسدياً ) .
و أنت يا ضياء قلبي تعلم أن رسائل الكتاب المقدس لم تكن في ذلك الوقت معروفة لديَ فابتهجت بذلك و استيقظت بقوة عزم كي أحب و أجتهد و أتحصل و أملك دون أن أقبل هذا المذهب أو ذاك بل قبلت الحكمة نفسها مهما كانت ..
و لما كانت الحكمة خالية من اسم المسيح فقد حملني هذا علي أن أقف أمامها مضطرباً . لأن هذا الاسم - تبعاً لرحمتك يا رب - هو للمخلص ابنك - ملك فلبي الحنون ، الذي امتصصته بورع مع لبن أمي الذي كنزته لي بكثرة فائقة فلم أقبل مطلقاً كل ما كان بدون ذلك الاسم مع أنه لم يكن أبداً حاذقاً أو ظاهراً أو حقيقياً .
-9-
في ذلك الوقت عــزمت علي مطـــالعة الكــتب المقدســـة ،
لعلي أستطيع أن أدرك كنهها و لكني لم أستطع أن أفهمها ،
لأن ما فيها لم يكن يتفق مع طبائع المتكبرين أو حديثي العهد بالإيمان ،
لقد كانت معانيها سامية ، و منطوية علي أســـــرار خفيــــة ،
لم أقـــدر أن أصل إليها أو أحني هامتـــــي لأتتبـــع خطواتهـا .
عندما بدأت في مطالعة الكتب المقدسة لم أكن كما أنا الآن حتى لقد كانت تبدو أمامي أنها غير جديرة بأن تقارن بمفاخر ( توللي ) ، إن وداعتها لا تليق بانتفاخ كبريائي و تواضعها المتزايد كان أسمي من أن يتغلغل فيه ذكائي الذي كان خارقاً . لقد كنت أحتقر أن أكون متواضعاً لأني و قد كنت منتفخاً بالكبرياء قد أردت أن أجعل نفسي عظيماً .
-10-
انحرافه وراء الأباطيل
لذلك لم يكن عجيباً أن أقع بين أناس أولعوا بالكبرياء ، و انصرفوا إلي إرضاء شهواتهم و مهذارين ، حتى لقد كانت تبدو في أفواههم مكائد إبليس مسربلة بخليط من مقاطع اسمك
و اسم يسوع المسيح ربنا و اسم الروح القدس معزينا …
إن أفواههم لم تكف عن ترديد هذه الأسماء و لكن قلوبهم كانت خالية من الحق و يصيحون
( الحق الحق ) دون أن يكون الحق فيهم ، بل كانوا يتكلمون كذباً عنه ، عنك أنت أيهــا الحق كما كانوا يتكلمون كذباً عن عناصر العالم التي هي خلائقك .
كان يجب عليَ أيضاً أن أجتاز بالفلاسفة الذين تحدثوا بالصــــدق عن خـــــــلائقك ،
محبة فيك يا أبي يا فائق الصلاح ، و جمال كل الأشياء الجميلة ، أنت أيها الحـق .
حتى لقد لهث جوهر روحي كثيراً في باطني سعياً وراء معرفتك ،
عندما تكلمــــــوا عنك كثــــــيراً في أذني بأشـــــكال مختلفــــة ،
و لكن ما كانوا يرددونه عنك في أحاديثهم أو كتاباتهم الكثيرة لم تكن إلا صدي الحق .
* * *
هذه هي الأطباق التي كانت تقدم إلي أنا الجائع إليك ،
أما هــــم فبــــــدلاً مــــــن أن يعبــــــــــــــــــــــــدوك ،
قـــــــــــد عبدوا الشمـس و القمر و أعمالك الجميــلة ،
و لــــــــم يعبـــــدوك أنت صــــــانع هـذه الأعمـــــــال .
إن أعمــــالك الروحيــــة كانــــت قبــــل أعمالك المادية ،
و لكني لم أجع و لم أعطش حتى إلي أعمالك الروحية ،
و لو كانت سمائية و مضيئة ،
لأن شوقي كان متجهـــاً إليك و حــدك أنت أيها الحـــق ،
الذي لا يمكـــن أن يعــــتريه تغــــير و لا ظــــل دوران ...
كم كانت تبدو أعمالك الروحية متلألئة أمامي في تلك الأطباق التي كانت تُقدم لي ، لقد كانت عبادتها برغم ما فيها من ضلال أفضل عندي من عبادة الشمس لأنني ظننت أنك هو أعمالك الروحية لذلك تغذيت بها دون أن أكون راغباً فيها ، لأنك لم تكن تلك الأباطيل التي لم أشبع بها و لم ألبث أن لفظتها و نبذتها .
لقد كان مثلي في هذا الشأن مثل الجوعان الذي يحلم بأنه يأكل الطعام ، فمع أن الطعام الذي يراه في النوم يشبه الطعام الذي يراه في اليقظة ، إلا أن الجائع لا يشبع بما يحلم أنه يأكله أثناء النوم ،
كذلك لم أشبع بتلك الأباطيل لأنها كانت شيئاً آخر خلافك كما أدركتك بعد هدايتي ..
تكلم الآن معي يا رب ..
إن تلك الأباطيل كانت مجرد أجسام خيالية اشتهاها جسدي الذي لم يشته تلك الأجسام المادية - سمائية كانت أو أرضية - التي كنا نراها بأعيننا، و التي لم يكن هناك شك في وجودها ، لأننا نحس بها كما تحس بها الحيوانات و الطيور ،
و لا جدال في أن الإيمان بما هو موجود أفضل من الإيمان بما ليس لــــه وجود حتى
و لو تخيلناه جسماً عظيماً لا حد له و لا نهاية .
لقد كانت تلك القشور التي تغذيت بها في ذلك الوقت عديمة القيمة ،
لذلك لم أشبع ،
و لكن عندما فتشت عنك يا حبيب قلبي وجدت فيك شــــبعاً و ريـــــاً ..
أنت شئ آخر غير تلك الأجسام المادية التي نبصرها في كبد السماء ،
ما ظهر منها و ما أستتر لأنك خالقها جميعاً دون أن تفضلها بشيء عن سائر مخلوقاتك ..
إنك فوق كل ما يمكنني أن أتصوره عن تلك الأجسام المادية التي كنت أسبح بخيالي فيها دون أن يكون لما تخيلته عنها ظل من الحقيقة ، لأن هذه الأشياء لم تكن سوي أجساماً جامدة ، و لا يمكن أن تكون أنت هي كما لا يمكن أن تكون الروح التي هي حياتها ،
لأن حياة تلك الأجسام و إن كانت أعظم من الأجسام ذاتها ،
إلا أنك لم تكن أنت هي :
لأنك لســـــت حيـاة الأجســــاد بـــــــــــــــل حيـــــــاة الأرواح ،
و حياة الأحياء التي حياتها فيك يا من لا تتغير يا حياة نفسي .
-11-
أين كنت مني في ذلك الوقت ؟! و علي أي بعد كنت ؟!
لقد كنت تائهاً بعيداً جداً عنــــك و كنت محـــــــــــــروماً
حتى الخرنوب الذي تقتات به الخنازير التي كنت أطعمها …
لأنه حتى خرافات الشعراء و علماء اللغة كانت أفضل من تلك الأشراك التي وقعت فيها .
أجل إن دراسة النظم و الشعر ... و ميديا الطائر هي أنفع بلا شك من دراسة عناصر البشر الخمسة المستترة تحت أقنعة مختلفة ، مناسبة للكهوف الخمسة المظلمة التي لا وجود لهل ومع ذلك تٌهلك من يعتقد بها !!
( لا نعرف ما يقصده المؤلف بخمسة عناصر البشر المستترة تحت أقنعة مختلفة للكهوف الخمسة المظلمة ، و يظهر أنها إحدى الأساطير المعروفة في ذلك الوقت.) …
إن الإنسان عندما يدرس النظم و الشعر قد يجد فيه غذاء نفسياً حقيقياً ، بالرغم من عدم إيمانه بوجود الكائنات ، موضوع هذه الأشعار كميديا الطائر وغيرها التي يتغنى بها أو قد يستمع إلي إنشادها ...بعكس عناصر البشر الخمسة التي كنا نؤمن بوجودها دون أن يكون لها في الحقيقة ظل من الوجود .
* * *
ويل لي .. ثم ويل.. إلي أي درجات الهاوية كنت مُساقاً ..
و كم تعبت و تلــفت ســــعياً وراء الوصــول إلي الحــــق ..
و أخيراً حصلت عليك يا إلهي .
إنني أعترف بــذلك أمامـــــك يا من رحمتني ..
و لم أكن من قبــل معــــترفاً كمــــا أنــا الآن ..
إنني أعترف بسعي في سبيل الوصـــول إليك :
دون أن أهتــــدي في ذلك بعقـــلي البشــــري ،
الذي جعلني أعتقد بأني أسمي من الحيوانات ،
و لكـــــن الذي هــــداني هــــو روحـــك الذي كــــان في داخـــــلي ،
مستتراً أكثر من كل ما هو مستتر جداً و أعلي من كل ما هو عال .
* * *
و قبل ذلك كنت أسير مندفعاً وراء شهوات جسدي ، فصادفتني تلك المرأة الشريرة .
و لما كنت جاهلا و غبياً ، فإنني لم أدرك أنها تلك المرأة التي عناها سليمان بقوله ( إنها جالسة عند الباب تقول كُل خبز الخفاء طوعاً و أشرب المياه المسروقة فهي حلوة ) لقد أغوتني تلك المرأة لأنها أدركت من عينيَ أنهما زائغتان و أن نفسي تشتهي طعاناً كهذا الطعام الذي كنت أتلذذ به .
-12-
بعض مشاكل الكتاب المقدس التي اعترضته
هنالك شئ آخر قد صنعته و لم أكن أدري أكان صواباً أم خطأ ..!
لقد كنت في حدة الذكاء ،
و كنت في خطر الوقوع في أحابيل المضللين الأغبياء عندما سألوني :
-1- من أين أتي البشر ؟
-2- هل الله - سبحانه و تعالي - جسم محدود و له شعر و أظافر ؟
-3- كيف يمكن أن يكون باراً ذلك الذي يتزوج عدة نساء في وقت واحد معاً ؟
و كيف يمكن أن يكون باراً ذلك الذي يقتل النفس التي حرم الله قتلها
أو يقتل نفساً حية ليقدمها ذبيحة لله ؟؟
لقد أزعجتني هذه المشاكل لجهلي و رغم إنني كنت بعيداً عن الحق فقد سعيت إلي معرفة هذه الأشياء و كل ما استطعت أن أعرفه عن الشر و الخير في ذلك الوقت لم يكن سوي أن الشر هو عدم الخير و أنه سوف يأتي ما يبطل الشر و الخير فلا يكون لهما وجود .
كذلك كنت أظن في ذلك الوقت أن :
الله جسماً و أن هذا الجســــــم ، قــد أمتد فقط إلي الأجســـــام
كمـا أمتد من عقلي إلي خيالي ،
لــــم أكــن أعــلم أن :
الله روح و ليس جسماً له أطراف ممتدة طولاً و عرضاً بشكل جسيم …
ذلك إن كل قطعة في الجزء هي أصغر من كل قطعة في الكل ، فإذا كان الله غير محدود فإنه إذا وجد في مكان محدود فإن الجزء الموجود في المكان المحدود يكون أصغر من الجزء الموجود في المكان غير المحدود
و لا يمكن أن يقال هذا القول بالنسبة للروح القدس أو الله الأب !!...
و نحن ماذا وجد فينا مشابهاً لله حتى يصدق القول الإلهي .
( ليكون الإنسان علي صورة الله ) . لقد كنت في ذلك الوقت أجهل كل هذا .
-13-
إنني لم أكن أعلم أن الخير هو في البر الذي لا يقاس بمقياس عادات الناس بل يقاس حسب الناموس الذي لا حد لكماله الذي لله القادر علي كل شئ .
و أن هذا الناموس الذي وضعه الله و إن كان واحداً إلا أنه كان يختلف باختلاف الأماكن
و الأزمنة لأن عبارة ( أثناء ذلك ) إن كان لها نفس المعني الذي لعبارة ( في كل حين ) إلا أن عبارة (في كل مكان ) ليس لها نفس المعني الذي لعبارة ( شئ واحد في مكان واحد وشئ آخر في مكان آخر )
...فتبعاً للناموس الذي وضعه الله كان إبراهيم و أسحق و يعقوب و موسى و داود أبراراً لأن الله مدحهم بفمه و إن كان البشر الأغبياء قد حكموا عليهم بأنهم أشرار فذلك لأنهم حكموا حسب ناموس البشر، و قارنوا عاداتهم الحقيرة بالعادات الصالحة للجنس البشري بأكمله.
مثلهم في هذا مثل إنسان لا دراية لـــه باستعمال الأسلحة فمثل هذا الإنسان إذا دخل مخزن أسلحة فإنه قد يغطي رأسه بأذرع وقاية الساقين أو ينتعل في قدميه الخوذة التي يُغطي بها الرأس ثم يشكو بعد هذا أن تلك الأسلحة غير صالحة للاستعمال .
أو مثل إنسان يفتح حانوته بعد ظهر أحد الأيام التي يجب أن تقف فيها جميع الأعمال بعد الظهر حتى إذا أمروه بغلق محله استشاط غضباً لأنه لم يُسمح لــــه بالاستمرار في فتح حانوته الذي كان مفتوحاً من قبل . أو مثل إنسان غريب لم يأذن لـــه أمين أدوات الموائد والمشروبات بأن يتداخل إذا وجد الخدم يتداولون استعمالها فيغضب هذا الإنسان إذا رأي أحدهم قد حمل بعض هذه الأدوات خارج المنزل أو خارج غرفة الأكل بحجة أنه ما كلن يصح أن تنقل الأدوات الخاصة بأحد المنازل أو إحدى الأسرات إلي غيرها.
هذه هي حالة من يغضبون عندما يسمعون أن أناساً أبراراً عملوا أعمالاً كانت محلله في أيامهم و قد أصبحت الآن محرمة أو يغضب لأن الله لأجل اعتبارات زمنية أمر بعض الناس بأمر مخالف لما أمر به غيرهم مع أن كلا الأمرين خاضع لبر واحد .
لقد كان يكفي لإقناع هؤلاء المعارضين أنهم يشاهدون دائماً اختلاف الأشياء في الإنسان الواحد و في اليوم الواحد و في البيت الواحد و ما في هذا الاختلاف من تناسب مع الأشياء المختلفة . فإذا كان الأمر كذلك فلا عجب أن لا يباح اليوم ما كان مباحاً بالأمس و لا عجب أن الشيء الذي كان مسموحاً و مأموراً به في زمان ما قد أصبح ممنوعاً و محرماً في زمن آخر فإذا عمله إنسان عوقب عليه .. أيمكن أن يقال بعد هذا أن العدل متقلب أو متغير ؟
كلا و لكن الأزمنة التي تسود عليه هي المتغيرة . و لأن البشر قصار الأعمار و الأفكار لا يقدرون أن يوفقوا بين أسباب الحوادث التي وقعت في أجيال سابقة مع شعوب آخرين ، كما لا يقدرون أن يدركوا بسهولة ما هو مناسب لكل عضو و جزء و فرد و شخص لعدم إلمامهم بهذه الأسباب أو تلك البواعث بالنسبة للشخص الواحد و في نفس الجسم الواحد أو الأسرة الواحدة أو اليوم الواحد و مع ذلك فهم يعترضون علي هذا و يسلمون بذاك .
-14-
في تلك الأوقات لم أكن أعلم كل هذا و لم ألحظه لأنني كنت أحارب وحدي في جميع الميادين ، لقد نظمت قصائد مختلفة من الشعر ، و لكنني لم أستطع أن أضع وزناً شعرياً واحداً لها جميعاً ، لأن القصائد كانت مختلفة في أوزان مختلفة و لم يكن لها وزن واحد ، و ذلك بخلاف كتبك المقدسة التي صيغت بمهارة فائقة حتى إنه بالرغم من احتوائها علي حالات مختلفة ، فإن أساسها ليس مختلفاً ، لأنها جمعت كل هذه الحالات في وزن واحد ،
حتى إنني إلي الآن لست أفهم كيف يمكن أن يكون البر الذي أطاعه بشر صالحون
و قديسون قد تضمن في أمر واحد كل هذه الأشياء التي أمر بها الله دون أن يكون هناك أي اختلاف في أي جزء من أجزاء هذا الأمر ، بالرغم من أن التشريعات التي صدرت في الأزمنة المختلفة لم تصدر في مجموعة واحدة و لكنها صدرت علي دفعات متعددة إذ كان يؤمر في كل زمن من الأزمان بما يلائمه و لأنني كنت أجهل هذا فإنني قد لمت الآباء القديسين لا لأنهم استفادوا بأوامر الله .
أو بما أوحي إليهم به و لكن لأنهم تنبأوا بأوامر مستقبلة كان الله قد أوحي لهم بها .
-15-
و لكن ... أيمكن من الظلم في أي زمان و أي مكان أن :
تحب الرب إلهك من كل قلبــــك و مـــن كـــل نفســـك
و من كل فكـــرك و تحب قريبك كنفسك .
كلا بالطبع و لذلك كانت تلك الخطايا البشعة التي هي ضد طبيعة البشر كخطايا رجال سدوم مكروهة و مبغوضة حتى إن العقاب واجب لكل من يرتكبها في كل زمان و كل أمة كناموس الله الذي لم يأمر البشر بأن يهتكوا بعضهم بعضاً .
ليس ذلك فحسب ، بل إن تلك الصلة التي يجب أن تقوم بيننا و بين الله لا يوجد ما يقطعها قدر تدنيسنا تلك الطبيعة بزيغان الشهوة ، لأن تلك الطبيعة قد أبدعها الله فينا و تلك الآثام التي تدنسها هي ضد طباع الرجل حتى إن شرائع البشر تقاومها و تعمل علي استئصالها و لو باستعمال العنف مع من يرتكبها . و تأسيساً علي هذا فإن كل ما هو متفق عليه طبقاً للعرف الجاري أو الشرائع السائدة عي آية مدينة أو أمة لا يمكن التحلل منه لمجرد لذة غير مباحة لأي إنسان سواء أكان وطنياً أم أجنبياً لأن كل ما لا يتفق مع العرف أو الشريعة فإنه يزعج المجموع .
أما الله فإنه عندما يأمر بأي عمل فإن هذا العمل يجب أن ينفذ، حتى و لو كان هذا العمل ضد عوائد الناس ، أو ضد الاتفاقات التي عقدوها مع أي شعب من الشعوب حتى و لو لم يكن قد سبق عمله أو سبق فرضه أو كان قد سبق فرضه ثم أوقف تنفيذه ، فهذا العمل يجب أن ينفذ من جديد و أن يعتبر مفروضاً من وقت صدور الأمر به لأنه إذا كان من المقرر أن لكل ملك في مملكة أن يأمر بما لم يأمر به أحد أو بما لم يأمر هو به من قبل ومع ذلك تكون طاعة هذا الأمر واجبة تحقيقاً للأمن والسلام اللذين لا يسودان إلا بطاعة أوامر الحكام ، لأن طاعة الحكام هي الميثاق العام للهيئة الاجتماعية فمن باب أولي تكون طاعة أوامر الله واجبة علينا ، لأن الله هو المتسلط وحده علي كل الكائنات ، و كما أنه في سيادات البشر تكون السلطة الأعظم سيادة واجبة الطاعة و التفضيل علي ما هو دونها فكذلك
يجب أن يطاع الله و يفضل علي كل شئ لأنه فوق الجميع .
-16-
لا يلجأ الإنسان إلي العنف إلا عندما تثور في نفسه الرغبة في الإيذاء و الإضرار بالغير لذلك فهو يلجأ إلي القتل أو التخريب ... كذلك قد يدفع حب الانتقام الإنسان إلي استعمال العنف مع عدوه كما قد مدفعه إلي ذلك رغبته في الحصول علي فائدة من إنسان آخر كما يحدث من اللص مع المسافرين .
بل إن أعمال العنف قد تُرتكب لشر يخشى وقوعه كما يحدث من الإنسان الخائف ،
أو لمجرد الحسد كما يحدث من الحسود عندما يجد غيره أكثر سعادة منه .
ليس ذلك فقط بل إن أعمال العنف قد تُرتكب لمجرد بعث السرور في نفوس الغير كما يفعل مصارعو السيوف أو الذين يسخرون بغيرهم و يعيرونهم ...
إن من يعملون هذه الأعمال هم الزعماء الذين تأصل في نفوسهم الشر نتيجة لشهوة الجسد أو شهوة العين أو شهوة حب الرئاسة ، سواء أكانوا فرداً أم جماعة، متفرقين أم متحدين .
و هكذا يعيش البشر سقماء لعدم إصغائهم للثلاثة و السبعة التي تكون القيثارة ذي العشرة أوتار التي هي وصاياك يا الله يا من كلك حلاوة و أعلا من كل ما هو عال.
* * *
و لكن أيمكن أن يلحقك شئ من هذه القبائح ،
يا من لا يمكــــــــن لأحــــــــد أن يدنســــــك ؟
و هل توجد هنالك أعمال عنيفة يمكن أن تضرك ،
يا من لا يمكــــــــن لأحــــــــد أن يضــــــــرك ؟
و إذا كان لا يوجد هنـــــالك شــئ من هـــــذا ،
فلماذا إذن تنتقم من البشر عندما يخطئــــون ؟
... إنك تنتقم من البشر لأنهم يرتكبون ما يضرهم ،
ناظراً إلي أنهم عندما يخطئون إليــــــــــــــــــــــــــك ،
يخطئون أيضاً ضد أنفســــــهم ،
هم بإفراطهم في استعمال أشياء مباحــة ،أو ليســـــت مبــــــــــــاحة ،
كتلك العـــــادة التي هــي ضد الطبيعــــة ، إنما يسيئون إلي أنفسهم ،
لأن هذا الشــــر يفســـــد طبـــاعهم التي خلقتهـــــــــا أبدعتهــــــــــا .
كذلك عندما يكفر الناس بألسنتهم و قلوبهم بك ، رافسين المناخس و كاسرين و تد الهيئة الاجتماعية ، بسعيهم في إثارة الفتنة طمعاً في فائدة يربحونها ، أو ضرر يسيئون به إلي الغير إنما يسيئون إلي أنفسهم بعملهم هذا ، و في الوقت نفسه يعتدون عليك يا مصدر الحياة ، لأنك أنت وحدك الخالق الوحيد وأنت وحدك الإله حاكم المسكونة ...
لذلك يجــب علينـــــا أن نصــــــلي بكـــــــل تــــــــذلل :
لنرجع إليك ، لتطهـــرنا من خطايا عاداتنـــا الشـــريرة ،
لأنك رحـوم ، و تغفــــر خطــــــــايا الذيـن يعترفــون لك ،
و تسـمع أنيـــــــــن الأســــــــــــــــــــير ،
و تحـــله من قيوده التي يقيد بها نفسه ،
إن كان لا يضادك و لا يرفع أعلام الحرية الباطـــلة ،
فيخسر كل شـــــئ عندما يشـــتهي ما لغــــيره ،
و يحب خيره الخاص أكثر من حبك يا خير الجميع .
-17-
زيادة علي آثام القباحة و العنف و المظالم يوجد هناك آثام أخري يعملها الناس جملة بمهارة و يذمها أولئك الذين يحكمون بعدل حسب ناموس الكمال .
و مع ذلك فإن الناس عندما يرتكبون هذه الآثام يُمدحون باعتبار ما سوف يعملونه مستقبلاً من خير ، شأنهم في هذا شأن من يرجو القمح من السنبلة إذا نمت واخضرت ...
كذلك توجد أعمال أخري تشبه أعمال العنف ، و مع ذلك فإنك لا تعتبرها خطايا ،
لأنها لا تغيظك أيها الرب إلهنا ، و لا تضر الهيئة الاجتماعية ، و من هذه الأعمال اقتناء الأشياء
و الأموال و ادخارها لمستقبل الأيام ، لاستخدامها في شئون الحياة . كذلك من بين تلك الأعمال العقوبات ، التي توقعها السلطة الزمنية بالمجرمين ، لتقويمهم لا لضررهم .
إذن توجد هناك ثمة أعمال يذمها البشر و تمدحها شهاداتك يا رب ، كما توجد أعمال كثيرة يمدحها البشر و أنت تشهد بأنها مذمومة ، لأن غرض العمل و رأي من يعمله و اختلاف الأزمنة المجهولة كلها تتناقض مع بعضها . لذلك فلا عجب إذا ما أمرت الناس بأمر شاذ أو غير مألوف لأنك سبق أن نهيت عنه في وقت من الأوقات دون أن تبين سبباً لهذا الأمر الذي قد يكون ضد شرائع فريق من البشر ولا عجب إذا ما خالف الناس هذا الأمر وامتنعوا عن تنفيذه مبررين مخالفتهم له بأنهم لا يريدون مخالفة شريعتك السابقة لأنهم متفانون في عبادتك .
يا رب إن الذين يعرفون وصاياك هم السعداء ، وكل ما يعمله خدامك إنما يعملونه ليظهروا علانية ما هو ضروري وجدير بالاتباع في الوقت الذي يعيشون فيه والأزمنة المستقبلة التي يتنبأون عنها .
-18-
و لكوني كنت جاهلاً بهذه الأمور ، فقد هزأت بأبنائك و خدامك القديسين ،
و لكني لم أربح من وراء هذا سوي ازدرائك بي ... لقد كنت مدفوعاً إلي تلك الجهالات تدريجياً و رويداً رويداً ، حتى لقد كنت أعتقد أنني إذا قطعت شجرة التين فإنها تبكي عند قطعها ، و أنه إذا فُصل غصن عنها فإنها تريق من أجله دموعاً لبنية و تظل حزينة منتحبة حتى يأتي قديس مانوى و يأكل منها و يمزجها بأحشائه فعندئذ تجف دموعها و يخف حزنها إذ أن القديس المانوى عندما أكل منها قد حلل ذرات اللاهوت الموجودة فيها ، في كل تأوه أو أنين يصدر منه في صلاته ( لقد كانت العقيدة أن ذرات اللاهوت محجوزة في شجرة التين حتى يعتقها منها أسنان أو جوف قديس مانوى مختار ) .
لقد اعتقدت أنا التعيس أن الرحمة واجبة لثمار الأرض أكثر من و جوبها للبشر الذين خلقت من أجلهم هذه الثمار ، فإذا وجد إنسان - غير مانوى - جائع والتمس تينة ليأكلها فإني كنت أشفق علي تلك التينة التي كانت تظهر في عينيَ كأنها محكوم عليها بالموت.
-19-
الله يوحي إلي أمه في رؤيا بهدايته
أما أنت يا رب فقد أرسلت لي معونتــــك من الأعـــــالي ،
و خلصـــــــت نفســـــــي من تلك الهـــــــاوية العميقـــة ،
لأن أمي المؤمنــــــة بك كانـت تبكي إليك من أجـــــلي ،
و كان بكاؤها يفوق بكاء الأم الثكلى علي فقد وحيدها ...
لقد كانت أمي مؤمنة بك و ممتلئة من روحــك القدوس ،
فأدركــــت خـــطر المــــــــوت ، الذي كنت متمسكاً بـه ،
و أنت يا رب قد اسـتجبت لها ، و لــم تهــزأ بدموعهــــا ،
لأنها عنـــدما كانت تصـــلي :
كانت تروي بدموعهـــــــــــا أرض المكان الذي تصلي فيه .
لقد استجبت لها يا رب ، و أريتهــــا تلك الرؤيا التي عزيتهــــا بها ،
و عندما تعزت سمحت لي بأن أعيش معها ، و آكل علي مائدتها
في ذلك المنزل الذي كانت قد بدأت في كراهيته كارهة معه تجديفي و ضلالي …
لقد كانت رؤيا أمي :
أنها وجدت نفسها جالسة علي قاعدة خشبية ثابتة
فلم يلبث أن ظهر أمامها شاب مشرق بهيج يبتسم لها آخذاً في الاقتراب منها .
لقــــد كانت نفســــــــــــــــــها مكتئبة غارقة في الأحزان ،
حتى إذا ما سألها إنســـــــــان عن سبب حزنها و دموعها التي لا تنقطع ،
كانت تجيب أنها تندب هلاكي ،
أما هم فكانوا يعزونها و يقولون لها - و هم في غاية السرور -
بأن تتأمل جيداً في رؤياها و كيف أنني كنت في المكان الذي هي كانت فيه ،
و كيف أنها عندما تطلعت إليَ وجدتني و اقفاً بجوارها ،
في نفس النظام الذي كانت تقف هي فيـــــه ...
من أين كانـت لأمي هذه التعزيـــات إلا منــــــك ،
لأن أذنيــك مالتـــا إلي قلبهـــــــــــا حقــــــــــــاً ،
لأنك صـالح جــــداً و قــــادر عـلي كل شــــــئ ،
يا مـــن تعتنــــــي بكـــــل واحــــــد منـــــــــــــا ،
كمـــا لـم يكـن لك أحــد آخـــر تعتنـي به غــيره ،
و تعتني بنا جميعاً كما لو كنا فرداً واحـــداً فقــط .
-20-
لقــــد أخبرتنـي أمي برؤياهــــا فقـــلت لها :
إن تلك الرؤيا تعني أنه يجب عليها ألا تيأس ،
من أن تكــــون ذات يــــوم حيث كنـــت أنـــا ،
فلم تلبث أن أجابتني في الحال و بلا أدني تردد :
كلا إنني لم أُخــــبر بأنني ســـــأكون حيث يكـــــون هو ،
و لكنني أُخبرت بأنه حيثما تكونين أنت سيكون هو أيضاً .
أعترف لك يا رب علي قدر وعي ذاكرتي - وطالما تحدثت عن هذا - بأن إجابتك لأمي كانت في الوقت الذي كانت فيه مستيقظة ، حتى إنها لم ترتبك بتعليل تفسيري غير الصحيح ، و أبصرت سريعاً ما يجب رؤيته و ما لم أفطن إليه قبل أن أتكلم معها حتى إنني تأثرت في ذلك الوقت بكلامها أكثر من الرؤيا نفسها ، تلك الرؤيا التي أفرحت أمي القديسة ، و لم يلبث فرحها أن صار كاملاً لأجل تعزية ألمها الذي ظل وقتاً طويلاً لأني ظللت بعد ذلك تسع سنوات كاملة متمرغاً في حمأة الهاوية العميقة و رغم إنني كثيراً ما حاولت أن أنهض و لكنني في كل مرة كنت ازداد هبوطاً إلي أغوار الأحزان و ظلمة النفاق و كانت تلك الأرملة الوديعة التقية الوقورة التي أحببتها حزينة في كل حين من أجلي و لكنها لم تلبث أن صارت فرحة برجاء خلاصي مستقبلاً .
و إن كان هذا لم يقــــلل من دموعهــــــــا ،
إذ لم تنقطـــع عن النواح إليك من أجلــي ،
فدخلــــــــــت صـــــلواتها إلي حضــــــرتك ،
و مـــــع ذلــك فقد سمحت لي بأن أكــون ،
محاطاً و غارقاً في بحــــــــار الظلمـــــــــة .
-21-
لم تكن وحدها إجابتك لأمي ، فقد أجبتها إجابة أخري لا أتذكرها جيداً ، لأنني كنت أمر مراً سريعاً بتلك الأشياء التي دفعتني علي أم أعترف لك بها ، و كثيراً من الأمور الأخرى غيرها ... لقد أجبتها في ذلك الوقت بواسطة أحد خدامك ، و هو أسقف أمين تربي في كنيستك ،
و قد درس جيداً في كتبك .
لقد توصلت أمي إلي مقابلة ذلك الأسقف و طلبت إليه أن يتنازل و يحدثني و يفند ضلالاتي و ينهاني عن شري و يعلمني أشياء نافعة لحياتي لأن هذه كانت عادته عندما يجد في بعض الناس رغبة في الإصغاء إلي حديثه .
و لكونه كان حكيماً فقد رفض - كما لاحظت بعد ذلك - و أجابها قائلاً :
بأنه مازال غير قابل للتعليم
ذلك لأنني كنت أبالغ في مدح تلك البدعة التي كنت أعتقد بها حتى لقد أجبرت أناساً كثيرين غير حاذقين علي أن يعتقدوا هم أيضاً بها عن طريق مناقشتي معهم فيها .
لقد أخبرتني أمي بأنه قال لها :
دعيه وحــــده ، و صـــلي إلي الله لأجـــــــــله
و سوف يعرف من نفسه حقيقة تلك الضــــلالة
و سوف يعرف بالقراءة ما فيها من إلحاد عظيم .
لقد قال لها في نفس الوقت كيف أنه هو نفسه عندما كان صغيراً قد أسلمته أمه المخدوعة إلي المانويين ، و إنه لم يقرأ كتبهم فحسب بل قرأها كلها تقريباً .
و لكن لم يلبث و دون أن يناقش أحداً من الناس فيها أو يسمع منهم دليلاً أو برهاناً يفندها لم يلبث أن شعر أن واجبه يحتم عليه أن يبتعد عن تلك الشيعة و قد أبتعد فعلاً عنها ...
و لكن أمي لم تقتنع بهذا بل زادت في إلحاحها عليه بتوسلات و دموع كثيرة عله يراني
و يتحدث معي ، حتى إذا أزعجته لجاجتها أجاب قائلاً لها :
انصرفي إلي سبيلك . الله يباركـــــــــك .
إنه غير ممكن أن يهلك ابن هذه الدمـــوع .
أية إجــــابة رائعـــــة حصلت عليهـــا أمي
- كما ذكـــــرت مــــــراراً في حديثها معي -
لقد كانت تعتقد أنها قد التقطها من السماء .