مقدمة بقلم
حضرة الأرخن الكبير الأستاذ حنا فام المحامي
--------------------
شاءت العناية الإلهية أن تجمعني في صيف هذا العام ، بقداسة الأب القمص قزمان البراموسي ، بعد فرقة دامت ما يقرب من عشرة أعوام ، ترك حضرته في خلالها العالم وذهب إلى الدير، فكان بيننا عندما التقينا ما لابد أن يكون بين صديقين جمعتهما أيام الدارسة ، ووحدت بين قلبيهما بعدها وحدة الهدف النبيل الذي كنا نعمل من اجله ، ألا و هو مجد الله وخدمة الكلمة .
لقد جدد هذا اللقاء ذكرياتنا القديمة عن تلك الأيام التي كان قداسته فيها يعيش بين ظهرانينا ، معيشة اكثر ما تكون قربا لمعيشة الرهبان منها إلى معيشة أهل المدن ، فلا تأنق في الملبس و لا تنعم في المأكل ، بل تقشف و زهد وقناعة . لاجرى وراء أباطيل العالم بل انقطاع للعبادة في بيت الله أو القراءة في كتبه المقدسة أو كتب آباء الكنيسة . و لطالما كنت اقصده إذا ما أشكل عليً موضوع من موضوعات الكتاب ، أو تعذر عليً فهم طقس من طقوس الكنيسة ، فكنت أجد لديه الجواب الشافي السديد ، المدعم دائما بأقوى الحجج والأسانيد .
لذلك فلا عجب أن افتقدته كثيرا بعد سفره إلى الدير،"وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر"..
* * *
لقد توقعت عندما ارتحل القمص قزمان إلى دير البراموس أن أراه بعد حين وقد نقب باحثا في ذخائر الآباء الأولين ، كاشفا عما وجده بين كنوزها من در غال ثمين .
و قد صح ما توقعت ، فلم أدهش لما أطلعني عندما قابلني علي عدد عديد مما ترجمه عن القبطية والإنجليزية من كتب عظيمة الأهمية ، فعرضت عليه أن يسارع إلى نشرها و رأينا أن نبدأها تجربة – وإنها لتجربة ناجحة بإذنه تعالي- بطبع " اعترافات القديس أوغسطينوس" التي عربها عن الإنجليزية ، فقسمناها إلى أجزاء وهذا هو الجزء الأول وستتلوه الأجزاء الأخرى عن قريب إنشاء الله .
* * *
إن القديس أوغسطينوس في اعترافاته ، إنما يصور حياته منذ أن كان طفلاً رضيعاً ،
حتى صار شابا يافعاً ، وحياته خلال هذه الفترة كحياة كل إنسان تتدرج وتتغير ، ففيها نزق ورعونة ، و فيها غيرة صالحة و وفاء ، فيها فترات شك وريبة و فيها فترات إيمان وتسليم .
فيها انحراف وراء الشهوات والملذات الدنيئة و فيها تعلق بالمبادئ والمثل العليا .
و القديس أوغسطينوس يصور لنا هذا كله في أسلوب عذب و تفصيل شيق وإيضاح لشتي العوامل التي تسيطر علي حياة الإنسان فتجعله يتخبط في أمواجها تارة تصرعه و طوراً ترفعه.
و إنه لواجب علي كل شاب ، أن يقرأ هذه الاعترافات ، لان فيها تصويراً دقيقاً لما كان هو عليه في أمسه ، و ما هو كائن عليه في يومه ، و لو عرف أن يربط جيداً ما بين يومه و أمسه لأقام دعامة صالحة لغده.
* * *
و أخيراً فإنني أري لزاما عليً أن أشير في نهاية هذه الكلمة إلي أن اللغة الإنجليزية التي عرب عنها القمص قزمان البراموسي هذا الكتاب هي اللغة الإنجليزية القديمة وهي اصعب ما تكون لفظاً و أشق ما تكون فهماً ، و لقد حاول الكثيرون ترجمة هذه الاعترافات ولكنهم فشلوا ، مما لا يسعني إلا أن أنوه بالمجهود الكبير الذي بذله قداسته في هذه الترجمة .
آما أنا ، فإنني لم اعمل سوي إيضاح بعض العبارات التي كانت تبدو غامضة ، و صياغتها بما يكفل تسهيل فهمها ، و هذا العمل ، لايعد شيئاً مذكوراً بجوار المجهود المضني الذي قام به المعرب من قبل .
ختاماً ، نسأله تعالي أن يعيد إلى الأديرة مجدها السابق لتكون منارة للعلم والدين ،و أن يسدد خطانا ويهدينا إلى سواء السبيل .
حنا فام المحامي
ديسمبر 1952 م كيــهك 1669 ش