الميمر السادس
1- قال
مار إسحق : مخافة الله تتقدم محبة الله. فالذي يعمل بالوصايا لأجل محبة الله, يُعطى
له أولاً خوف الله، وبه يكمل كل وصايا الله بكلفة وصعوبة، لأنه يقاتل الخطية التي
تقاوم الوصايا. وبجهاده مع معونة الله يقهر الخطايا بخوف الله، بحزن ورعب، لأنه
يخاف من الانغلاب والسقوط. ومع هذا ينتظر الوصول إلى فرح محبة الله، التي من أجلها
يعمل كل جهاد، إذا استمر كل الأيام في ترك الشر والبعد من كل خطية.
2- العمل
الذي يصل به الإنسان لكمال خوف الله، هو أن لا يخطئ خطية كبيرة أو صغيرة، حتى التي
لا تكون هناك خطية أصغر منها، إلا ويسرع بالتوبة عنها. وبهذا تكمل فيه مخافة الله،
التي هي البعد من جميع الخطايا، فيعطى له العمل الثاني الذي هو كمال كل بر وكل
فضيلة؛ لأن به يحصل الإنسان بالحقيقة على محبة الله، ويقتني عدم الأوجاع، وينعم بلذة
وحلاوة نظر الله.
3- فلا
يمكن للإنسان إذاً أن يصل إلى كمال مخافة الله إلا بترك جميع الشرور، وقطع كل
خطية. وبتكميله عمل كل بر يبلغ إلى محبة الله بنعمة الروح القدس. ونستطيع ذلك
بثلاثة أعمال: العمل الأول هو مداومة قراءة الكتب لكي منها نتخشع دائماً ونخاف الله
ونعرف وصاياه. والثاني هو العمل بوصايا الله والتحفظ بها. والعمل الثالث هو أن
ننقِّي قلوبنا، بصلاة دائمة بلا فتور، من كل فكر يضاد خوف الله ومحبته. فإذا
لازمنا هذه الثلاث فضائل، سهلت علينا وصايا الله وكملت فينا محبته.
4- لا
يستطيع الإنسان أن يكون بمفاوضة الله ومفاوضة الناس، ولا أن يكون قريباً من أهله
الجسدانيين ويقدر أن يدنو لشيء من الروحانيات، لذا فالغربة توافقنا كثيراً. ألا
تعلم يا أخي، أن حياتنا تنقرض ساعة بساعة، ويوماً بيوم، وحتى ولو أننا كل أيام
حياتنا نجتهد أن نردَّ يوماً واحداً من الذي مضى فما نستطيع. فخسارة عظيمة هي لنا
إذا نحن تغافلنا عن يوم واحدٍ لكي يجوز بلا ثمرة تمجيدنا وأعمالنا، فنتهاون من
تقديم الصلوات ومن التضرع أمام الله. لأن هذه كلها مرسومة ومكتوبة قدام الله، وبها
يُمدح الإنسان أمام النعمة، حيث تأتي أوقاته وهي موسوقة بأعماله الصالحة.
5- فلهذا
يا إخوتي، لا نتهاون في وقت واحد من أوقاتنا دون أن نقدم فيه أثمار التوبة. ينبغي
لنا جداً الجلوس وحدنا لكي نبكي وننوح على أيامنا التي جازت باطلاً فارغة،
واضمحلت, وليس ينفعنا وقت الموت أحدٌ، لا إخوة ولا أصدقاء. السعيد حقاً هو الذي
يتفكر في هذا، ويجمع أفكاره إلى ذاته وينقبض من الطياشة الباطلة، ولا يتخلف وقتاً
واحداً عن الصلاة والتوبة. أما أنا فلو أن جميع الخلائق يبكون عليَّ لأجل خطاياي،
لما كان ذلك يكفي.
6- اعلم يا أخي، إنه ليس لكثرة الأعمال يعطى الله الأجر, بل لشوق الإرادة
والبشاشة المفرزة، كمثل الصبيان الذين يسرعون إلى الطاعة، واتضاعهم هو فخر أنفسهم.
فالذي يريد أن يقيم كلمته، ولو أنها حق، هذا قد مرض مرضاً شيطانياً، والذي ينوح
على ذاته ينجو من النار. لقد أعطى ربنا الطوبى للطاعة، لأن المطيع هو الذي يتنعم
أولاً بالطوبى. والويل للمقاوم والمحارن لأنه يغتذي من مرارة نفسه كل حين.
7- كن (في كل حين) مبكِّتاً لذاتك، واضمر عن نفسك أنك خاطئ، وقل: ليس على
الأرض من هو أعظم خطية مني. داوم على السهر الكثير، وفكر في العذاب الأبدي.
الاتضاع هو مُهلك لجميع الآلام، والذين يقتنونه ينجحون في كل شيء، ويغلبون كل أمر.
الطهارة والصوم والصلاة والسهر والاتضاع وندامة النفس، هذه كلها فوق الطبيعة،
وطوبى للمتوحد الذي عمله دائماً بها، وعقله مضبوط بها.
8- في
فضيلتين جمع الآباء القداسة كلها، وهما: التواضع والنوح. فلنتفرس في ذواتنا إن كنا
في الرتبة الجسدانية مع المبتدئين، أم مع الوسطانيين، أم مع الكاملين، ونسرع لكي
ندرك، ولا ننسى ونتغافل لئلا نخسر.
9- إذا ما
أُهِّلت النفس لغفران الخطايا، حلَّت في النور الإلهي. فضيلة واحدة أو حسنة واحدة
تُعمل بإفراز، تقطع خطايا كثيرة. والشر ليس هو شيئاً إلا عدم الفضيلة فقط.
النصراني الحقيقي له في كل يوم حرب مع ذاته؛ لأن كل من قاتل مع نفسه وغلبها، ليس
له بعد قتال مع أحد. والذي دان نفسه لا تبقى عليه دينونة، ولا أحد من الناس يقدر
أن يدينه. لأن الذي قد عرف عيوب نفسه, لا يتقزز من عيوب الآخرين. والذي لا يعمل
شراً مع أحد من الناس هو بار. والذي يعرف دينونة الله، هو يدين نفسه ولا يدين
أحداً غيره. والذي أعماله ردية، لا يقدر أن يعلِّم آخرين أعمالاً صالحة. فينبغي
لنا أن نحب الله من كل أنفسنا ومن كل قوتنا، ونحب قريبنا كنفسنا، ولا نكافئ شراً
عوض شرٍ.
10- الذي
يداوم ترتيل المزامير بالروح بلا طياشة، يمتلئ من الروح القدس. أما الذي باللسان
فقط يصلى ويزمر دائماً ليلاً ونهاراً، فهو بار، وبعد ذلك يصير روحانياً. لأنه إذا
داوم على هذا العمل الظاهر ليلاً ونهاراً مدة من الزمان، بصوم كثير و تزمير
باللسان وصلاة ونسك وأعمال صعبة, فإن نفسه تمتلئ من ذكر الله، ويخاف ويرتعب من
الدينونة، ويحسب كل الناس أخير منه، وإذا نظر أعمال الناس، ورأى إما زانياً أو
فاسقاً أو ظالماً، فإنه يعتبرهم أخير منه، وذلك من ضمير قلبه الخفي وليس بالكلام
الظاهر، بل إنه يتقدم إليهم ويسجد قدامهم، ويتضرع قائلاً: صلوا عليَّ فإني خاطئ،
وقد أذنبت كثيراً قدام الله، ولم أوفِ عن ذنب واحد. فعندما يبلغ الإنسان إلى هذه
وأكثر منها، حينئذ يبلغ أن يزمِّر قدام الله بترتيل الروحانيين.
11- إن
الله بالسكوت وبالصمت يصلَّى قدامه بذلك الترتيل الموافق له. وإن كان أحد يسكت عن
تزمير اللسان، وما قد وصل بعد ولم يعرف أن يزمِّر بالعقل والروح، فهو بطال، ويمتلئ
من الأفكار الردية؛ لأنه سكت بالظاهر، وهو في الخفاء لا يعرف أن يزمِّر من داخل،
ذلك لأن لسان إنسانه الجواني لم ينبسط (بعد) لكي يرتل ويلغلغ (كالطفل) خفية.
12- إن
الصلاة التي يشير إليها الآباء ليست هي بالكلام فقط، ولا بالكلام تتعلمها؛ لأنك لست
قدام إنسان تصلي, بل قدام الذي هو روح أنت ترسل حركات صلواتك. لأن الله هو روح،
فلهذا ينبغي أن تصلي أمامه بالروح. (والصلاة بالروح) لا تطلب موضع الذي يصلي، ولا
نطق اللسان؛ لأن الصلاة الكاملة لا تطلب موضعاً. هذه الصلاة الروحانية هي داخلة عن
اللسان، وعميقة عن التزمير؛ وإذا ما أراد الإنسان أن يصلي بها يغطس ويتداخل عن
الكلام واللفظ، وفي بلد الملائكة يقوم، كعربون، وبغير كلام يقدِّس مثلهم. فإن سكت
عن هذه الصلاة، وبدأ بصلاة اللسان، خرج عن بلد الملائكة، ومن التشبه القليل بهم.
فإن كنت أيها الأخ ما بلغت لهؤلاء، وبلدك مازال بعيداً منهم، فاثبت الآن في العمل
البراني، وصلِّ وزمر بالصوت واللسان قدام الله بخوف وحب، حتى تصل إلى المحبة.
13- خَف
من الله بالعدل لكي تؤهَّل أن تحبه الحب الطبيعي الذي أُعطيناه بتجديدنا. ولا تكن
كمن يتلو كلام الصلاة خارجياً فقط، بل جاهد واعتنِ أن تكون أنت ذاتك كلام الصلاة.
لأن التلاوة ليس فيها نفع، إلا أن يتجسد الكلام بك ويصير عملاً، وتبقى في العالم
إنسان الله. لأن الضمير إذا ارتبط بالقراءة والصلاة، فإنه يتقوى ولا يقبل زرع
أفكار الشرور، ويصير فوق كل فخاخ الشيطان. لأن حرارة الصلاة والهذيذ يحرقان الآلام
والأفكار كما بنار، بالرجاء بالله. فهذا التدبير (أي ربط القراءة بالصلاة) يُقني
للراهب أجنحة، ويبلغ العقل الروحاني الذي به يخدم الروحانيون.
14- وكما
أن الذين آمنوا بالمسيح عندما ظهر في العالم هم أولاً أخذوا طباً حقيقياً لأنفسهم
وأجسادهم، هكذا أيضاً الذين يحفظون وصاياه، عندما يظهر في ذلك العالم، ينالون
مجداً وكرامة. وبقياس ما تنظر الطفل الطبيعي، هكذا بالمثل أيضاً انظر في الطفل
الروحاني. فمثلما هو ساكت لسان الطفل الذي لم يعرف الكلام بعد، ولسانه موضوع في
فمه وليس له حركة الكلمة، هكذا أيضاً لسان العقل هو صامت من كل كلام ومن كل
اهتمام، وهو موضوع ومعدّ فقط أن يتعلم تلغلغ وهجاية الكلام الروحاني.
15- ثمَّ سكوت اللسان، وثمَّ سكوت جميع الجسد. وهناك سكوت النفس، وسكوت
العقل، وسكوت الروح. صمت اللسان هو إذا لم يتحرك لكلمة ردية. صمت كل الجسد هو إذا
بطلت جميع حواسه. صمت النفس هو إذا لم تنبع فيها الأفكار المرذولة. صمت العقل هو
إذا لم يهدس بمعرفة وحكمة مخسِّرة. وصمت الروح هو إذا ما هدأ العقل حتى ومن
الحركات الروحانية التي للكائنات، وتختلج كل حركاته بالأزلية فقط، بدهش السكوت
عليها. هذه هى الدرجات والمقادير في الكلام والصمت، أما أنت فما بلغت إليها الآن،
ولأن بلدك بعيد منها، داوم صلاة اللسان ورتل قدام الله بالصوت.
16- المتوحد
هو إنسان قد ترك العالم وكل مجده وغناه وربحه، وأخْذه وعطاءه وبلده وأقاربه،
وانتقل إلى المجامع والأديرة، أو الجبال والبراري، يجلس في السكون، ويعمل بيديه و
يقوت نفسه، أو تعطى له صدقة من المؤمنين حسب عوزه فقط، ويعبد الله ليلاً ونهاراً.
17- أما
عمل المتوحد، فهو الصوم من العشاء إلى العشاء, وسهر نصف الليل، وصلوات لا تنقطع
ليلاً ونهاراً، وضرب المطانيات والسجود، وخدمة المزامير وقراءة في كتب الآباء.
المسكنة والتجرد والبعد من كل شره ورغبة، والنسك عن كل شيء ما خلا الخبز والملح و
الطبيخ الساذج غير الدسم. الرقاد على الأرض إلى وقت الشيخوخة والمرض والضعف، ثبات
داخل القلاية في الدير، ومن غير ضرورة أكيدة لا يخرج منها إلا إن كان للصلاة، أو
لتناول الأسرار في يوم الأحد، أو لأمر ضروري لأجل المجمع. البكاء والنحيب والتنهد
ولباس الشعر. الرحمة ومحبة الغرباء وغسل أرجلهم. الطاعة لسيدنا بحفظ وصاياه، وللآباء
القديسين وكتبهم. التواضع في كل شيء واحتقار الذات والازدراء بنفسه. حب لسيدنا
بالأعمال، ولأهل تدبير سيرته، ويكونون عنده كمثل الملائكة. السكون والصمت وأن يكون
غير محسوب عند نفسه. الامتناع عن شرب الخمر ما خلا لأجل مرض أو ضعف ما، أو حب
القريب، وهذا إذا ما عرض إلى ثلاثة أقداح لا غير. ذِكر الموت و الدينونة المزمعة.
تكميل سبعة أوقات الصلاة. الطاعة والخضوع للرؤساء والمعلم. خدمة الضعفاء وعمل اليدين. حفظ الحواس والعفة والطهارة. الاحتراس من
طياشة الأفكار. الفرح بالروح والاحتمال والصبر وعدم الغضب ومسامحة كل من يضره
ويحزنه. التعري من الآلام ومن كل شيء. الخوف قدام منبر المسيح و الهذيذ في الصلوات
بالقلب وبسط اليدين إلى السماء. وباختصار: النسك والتوبة ومحبة الأعمال مع بغضة
النفس والجسد إلى الموت.
18- فهذه
الأشياء تنبغي للمتوحدين الذين خرجوا من العالم إلى الوحدة. هذا هو المتوحد، وهذه
هي سيرته. وكل راهب لا يعمل هذه في ذاته حسب دعوته وحسب إسكيمه بكل مقدرته، مثلما
أمر سيدنا والآباء، أن يحفظ ويعمل، بل تهاون وصنع أمراً بإهمال وكسل، فهو لا يؤهل
للكمال، وهو يسير في رتبة ومنزلة العلمانيين. طوبى للذين يحفظون ويعملون، لأن
سيدنا إنما أعطى الطوبى للعمالين، وليس للسامعين والقارئين الذين لا يعملون. لهذا
ينبغي ألا نفتخر بالاسم، بل نجتهد في الأعمال؛ لأن العمل هو الذي يبرِّر ولو كان
بلا شكل أو إسكيم أو اسم.
19-
فلنحترص أن نقتني بالسكون سكوناً، أعنى أننا بسكون الجسد نمسك سكون النفس. والجحود
بالنفس الذي قال عنه المسيح: «أن نرفض كل شيء ونتبعه»، هو أن يكون قلبنا في
السكون. فإن لم يداوم المتوحد على هذا (الحرص) في قلايته، يكون كالذي يبني ويزين
بالشمال من ناحية، وهو من ناحية أخرى يهدم باليمين ويعدّ خراباً لما بناه. لأنه
يحترس من الأمام لئلا يُطعن ويُجرح، بينما هو يُسلب من ورائه ولا يحس، ومثلما يلوم
أنبا إشعياء جهالتنا وعدم معرفتنا، إذ نكون هادئين في القلاية (بالجسد فقط)، بينما
إنساننا الداخل يطوف في النجاسة. أعنى أن الإنسان يُقاسي الأحزان والضيقات داخل
السكون وينام على الأرض ويصلى، ويحمل أحزاناً كثيرة من أجل المسيح، وليس بفرح
ومحبة. نحتمل الضيقات التي تلاقينا في السكون، ونحفظ الوصايا بالظاهر، ونحن في
الخفاء خاضعين للآلام، وبالأفكار الردية نفسد الأعمال الصالحة.
20- ثلاثة
أبواب مفتوحة، إذا أغلقناها وأصبحت تحت سلطاننا، فإننا نجد الملك المسيح داخل
منها، وهى: باب القلاية، وباب الحواس، وباب القلب الجواني. ولا نقدر أن نغلق الباب
الأوسط (أي باب الحواس) إن لم نغلق البراني (أي باب القلاية)، ولا يثبت الجواني
(أي باب القلب) بحفظ حقيقي، إن لم نحترس في الذي هو خارج منه (أي الحواس). لأن هذه
الثلاثة مرتبطة بعضها ببعض، ولا يمكن غلق الجواني بدون الاحتراس باللذيْن هما خارج
منه، ولا هذان الخارجيان منه يكون في العقل قوة للتحفظ بهما إن لم يحترس بحفظ
الجواني، لأن به يكمل حفظهما، وهو المحتفظ بهما في الحقيقة. ولهذا إن لم يحفظ
الحارس باب الجواني (أي باب القلب)، فاللذان هما خارج منه (أي باب الحواس وباب
القلاية) يثيران عليه اضطراباً وسجساً كل وقت. ولأن الملك يسكن في البلاط الذي
داخله، فإن كان الذهن المتيقظ يحرس أبوابه بغير فتور، فهو يأخذ من الملك سلطاناً
لأجل مداومته على بابه، ويكون مخوفاً ذا هيبة ورعب على جميع من يحسدونه - الذين هم
من خارج - لأجل تداخله مع الملك المسيح، وإذا ما نظروه أو سمعوا صوته هربوا
واختفوا.
21- ويشهد على كلامى هذا، ذلك الشيخ القديس الذي قال: «يوجد من يجلس في
القلاية مائة سنة، ولا يعرف كيف ينبغي الجلوس فيها». أعني الذي لا يغلق باب القلب
الجواني، الذي يسكن المسيح الملك داخله، بينما هو يحارب لكي يغلق البابين
الخارجيين بتعب كثير وعناء.
22- وأما
نحن فإننا كالحكماء العارفين بالطريق التي تقطع الدورات الكثيرة في الجبال، نحترس
بجلوسنا داخل القلاية أن نغلق الباب الذي يحل داخله المسيح، وإذا ما أغلقناه
جيداً، ندنو بعد ذلك للمفاوضة معه. فإن كنا نفحته قدام كل أحد من كثرة الداخلين
والخارجين، فلا الملك يكون له وقت ليدخل، ولا نحن نجد فسحة للكلام معه. لأنه ما
دامت هذه الأبواب لم تُغلق من عارفي الحق، فلا يكون للقلب هدوء، لا من أحد الأفكار
ولا من أحد الآلام، لأن العقل الناطق لا يقدر أن يبطل.
23- فإذا
تجلَّد المتوحد داخل سكون القلاية بالغرض الذي ذكرناه، وكان معتنياً بهذين الأمرين
بإفراز وحكمة، اللذين هما: تعب الجسد، والاتضاع ومحقرة الذات في كل وقت، لا يمكث
كثيراً إلا ويوجَب له سلطان من العلاء، لكي بغير تعب - داخلا وخارجاً - يحفظ كنزه
بغير انسلاب.
24- ليس فقط الآلام هي التي تعوق الذين يقاتلون حتى الدم داخل السكون، بل
وأيضاً الأفكار الساذجة التي مثل خفافيش الليل تلزق أظفارها في سقف بيت العقل، ولو
أنه ينظفها كثيراً بقوة، فهي لا تمضي من أجل ما تَقدم لها (أي بسبب سلطانها
السابق). أما الآلام فيدفعها المتوحد عنه بواسطة الفضيلة، أعنى بالعمل والاتضاع
كما قلنا، وأما الأفكار الساذجة، فيدفعها عنه بتاورية الروح التي تظهر له في الصلاة،
أي بواسطة الراحة التي ذكرنا أنها تتوجب له بسلطة داخلاً وخارجاً. وهذه الأشياء
تحصل للذي تعب وأطاع بغرض مستقيم، واتضع وخضع في وقت المجمع، إذا لم يكن له غرض
آخر ما خلا النظر الدائم إلى المسيح، وهو يصلي أن تكون جميع تصرفاته حسب إرادته.
25- لأن
كل من يجلس في القلاية، وهو لم يغلق بابه جيداً، فإنه يتقلّى بداخلها كمن هو بالجحيم،
ولا يكون لفكره راحة. وإذا ما خرج من قلايته لا يقدر أن يمسك ذاته لا بالحواس ولا
بالحركات الداخلة، ويبقى مثل حجر نجس في أسواق المدينة قدام كل أحد. لأنه في
الأيام التي كان ينبغي له أن يكرِّم و ينيِّح كل أحد، كان منتقماً قاسياً وطالباً
كرامات في غير وقتها، أو أنه كان يخدم ويكرِّم وينيِّح الآخرين لأجل غيرة ما، وليس
بغرض وقصد مستقيم ومحبة حارة.
26- كل من في أيام عبوديته - أعنى طاعة المجمع - مشى باستقامة من غير تهاون
أو إهمال، وتأمل بفكره بغير انقسام بهذيذ الأمور الصالحة، وهو يأمل بشوق وفرح قلب
ويفكر بماذا وكيف يزيد على تجارته؛ فكلما تتواتر عليه التجارب والصعوبات والأشياء
المحزنة وقت جلوسه في السكون، فهي تضع في قلبه رجاءً وعزاءً. حتى ولو ظن أنها
مضغطة، فإن حملها يكون خفيفاً عليه، ويصبر عليها بفرح، هذا إذا لم يتخلف عن غرض
قصده الأول ويشتبك بشيء آخر غريب عن طريقه. وحتى إذا ما خرج من قلايته، فتلك
الراحة التي له داخل القلاية تُكتب على عينيه وعلى فمه وعلى يديه ورجليه، وباختصار
فإنها تملك على نفسه من داخل وعلى جسده من خارج، فلا ينعصر فكره بشيء من أنواع عمل
الفضيلة، بل يكون مملوًّا فرحاً ورجاء بالله، وإيماناً في جميع ما يصادفه، ويتاجر
(أي يربح) الحياة بحكمته من الأشياء التي يُظن أنها مخسِّرة. ولأن الرب جاد عليه
بهذا، وأخذ منه سلطاناً، فما تستطيع العوارض المضادة المناصبة للحق أن تسلبه
حريته، لا من داخل ولا خارج. وهو يعترف كل يوم بقلب منسحق متضع، وبحركات متطأطئة
لله، مُبرِّرة له، ويقول: «أبي الذي أعطاني هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف
من يد أبي شيئاً». فلا يكون له في فكره أبداً حركة تهدس بشيء كأنه من أعماله
واستقامة قصده وجد مثل هذا السكون، بل إن الرب هو الذي أعطاه هذا. حتى إنه ليس فقط
إذا كان جالساً داخل قلايته، بل وإذا كان خارجها، فهو يقهر الآلام البرانية التي
بالحواس، وذلك بتوجيب (أي بفعل) النعمة، وبواسطة عمله الخفي الذي من داخل، مثلما
علَّم الأنبا أرسانيوس.
27- فالسكون الحقيقي هو حفظ القلب الذي يولد من
الطاعة والاتضاع، ومن سكون الجسد ومن توجيب النعمة. ولما وجد آباؤنا القدماء هذا،
فمنهم من كان يطوف في المدن والشوارع، وأظهروا في نفوسهم سيرة كاملة بالجسد مع حفظ
حقيقي بالعقل، الشيء الذي إنما يُعمل في البراري القفرة والمواضع غير المسكونة.
وقد ضبطوا (السكون) في سائر أنواع إفرازات أعمالهم، ووضعوا هذا العمل كالإيماج والعلم
تجاههم، وصوَّبوا سيرتهم نحوه، واقتنوا قلاية يدخلونها كل وقت، وبيتَ ملجأ يستترون
فيه من المنافق الشرير، هي (أي القلاية) معرفة المسيح المقدسة، وهم على الدوام
قائمون بالسكون داخلاً وخارجاً، ويتشبَّبون بنور وجه المسيح
الذي له المجد وعلينا
رحمته إلى الأبد آمين