الميمر الرابع عشر
رسالة لأحد تلاميذه
عن السكون
يا أخي ،
اضطرني الواجب أن أرسل لأعرفك بهذه الرسالة الأشياء الضرورية كما وعدتك ،
و أعرف محبتك بأني و جدتك تريد السير كما يجب و بالتدقيق في هذه السيرة ،
أي سيرة السكون و الجلوس الانفرادي .
فهــــــــــــا أنــــــــــا أجمع الرأي و الكــلام الذي سمعته من العارفين بهذا العمــــل
مع ما باشرته أنا بالتجــربة العمليـــة ، و أضعـــه لك بإيجـــــاز ،
لكي اذا قرأتـــــــــــه تنتفع بكلام هذه الرسالة ، ومن أجل كثرة حرصك و اجتهــادك
فإنك بتمييز و حكمـة تدنو من قراءة رسالتنا هذه ليس حسب العادة كباقي القراءات.
لأنها مثل النور لما فيها من المفاهيم المتعددة و الوقة الخفية عن :
ما هو الجـــــلوس في الوحــــــدة ، و عمــــل الســــــكون ،
و أي أســـــــرار مكتــــــــــومه في هـــــــــذا العمــــــــل ،
و لمـــــاذا يرذلــون الــــــبر الذي يمــــارس وســـط النـــاس ،
و يختارون الضوائق و الجهاد في الجلوس المنفرد بالسكون ؟ .
فإن كنت تريد :
أن تجد الحياة غير الفاسدة في أيامك القليلة هذه فانه ينبغي أن يكون :
دخولك الي السكون بإفراز ، و فتش و افحص عن عمل الســـكون ، و مــا هــــــــو ،
فــــلا تســـــــــعى ( اليه ) من أجل الاسم فقط ، بل غص و تمسك و اهتم بإصرار
لتـــدرك مع القديســـين
ما هـــو ارتفــاع ( أي سمو ) هذا العمل و عمــق هذه السيرة .
فكمـــــا أن النـــاس عندمــــا يبـــدأون في عمــل مايكــون لهـــم فيــه قصــــد ،
و الهـــــــــــــــــــدف الذي ينتظرونه يحــرك فكرهم ليضعــوا أساس هذا العمل ،
و ما يشجع فكرهـم على معاناة الضغوط التي تواجه هذا العمل هو هدفهم منـه ،
و الفائــــدة التـــــــي ينتظــــــرونها منـــــــه ؛
هي التي توجــه العقــل لإكمـال هذا العمـل ،
هكذا أيضـــــــــــــاً
عمـــل الســكون الجليـــل هــو مينــاء كــل الأسرار ،
و العارفـــــــــــون يكون لهم فيه قصد و غرض و إليه يشخص نظر الفكر
من وقــت وضـــع الأســاس حتـى إتمـــام البنـــــاء ،
و في كل أعمـــــــاله المديـــــــدة و صعــــــــوباته .
و مثـــــــــل عينـي النوتـــــي التي ترصد النجوم ،
هكذا يكون نظـــــر المتوحــــد
شاخصاً داخله في كل تدابـير ســـيرته و سـعي طــريقه ،
وذلك حسب الغرض و القصد الذي و ضع في فكره من اليوم الأول الذي بذل نفسه فيه
للمســــــــير في بحــــــــر الســـــــــكون الصــــــــــــعب
الي أن يجـــــد الجوهــــــــرة
التي من أجلها ألقي نفسه في لجج هذا البـحر الذي ليس له قرار ،
و الشــــــــوق الي ما يأمــله يخفف و يهـــون عليـــه ثقــل العمـــــل
و الضــــــوائق الخطــرة و المصاعب التي تلاقيـــه في هذه الســيرة .
و الذي من بــدء دخوله للســكون :
لا يضــع لنفســه هذا القصــــــد و الغـــــرض
و اليـــه يصــــــــوب ممارســـــــــه جهـــــاده ،
بل يعمل بلا نظــــــــــام و حســـــبما اتفـــــق
فانه يكون مثل من يرعى الريح و لا يتخلص أبداً من روح الضجر كل أيام حياته ،
و يعرض له أحد أمرين :
فاما أنه لا يقدر على الصمود تجاه صعوبة الحبس فيخـرج من الســـــــكون كليـــــــــــة ،
أو أن يتجلـــــــــد و يثــــــــــــــبت فيـــــــــــــه فتكون قلايته مثل سجن له فيلقي فيها ،
لأنــه لا يعـــــــــــــــــــرف أن ينتظـــــــــــــــــر العــزاء المتـــــــولد مــــن الســـــــكون،
و لا أن يطلب بوجع قلب و يبكي بحزن في الصلاة مشـتاق لــذاك الشـــيء ليجـــــــده ،
هذا الذي أشــــار اليــــه آباؤنــــا الممــــــلوؤن محبـــــــة و رحمــــــــــة لأولادهـــــــم ،
ووضعــــوا فــــــــــــي كتبهـــــــــــــم اشــــــــــــارات ترشــــــــــدنا في حياتنـــــــــــا ،
و ما هو ( هذا الشيء ) ؟
قال أحدهم : هـــذه هــــي منفعتـــي من الســـكون ، هــــــــــو
أني اذا ابتعدت عن المعسكر الذي أنا جالس فيه ( أي السكون )
فان عقلي يخـــلو من الاســــتعداد للقتال و يرجــــع الي عمـــله .
آخر قال : أنـــــــا أجــــــــــري بســـــــــــرعة الي الســـــــــــــكون
لكــي تحلو في قلبي كلمات القراءة و الصلاة بلذة و فهم .
لســـــاني يصمت كمن في نعاس و نوم ، و تنقبض حواسي مع حركاتي ،
و بمداومة السكون يهـــدأ قلبــــي من اللقاءات و مـن اضطــراب الذكريات ،
و تجتاحني بغتـــــة أمــواج الفـــرح التي من أفكـــــــار الحركات الداخلية ،
التي تفيـــض مـــن غـــــير انتظــــار ليتنعم بها القلب .
هذه اذا ما أحاطت بسفينة نفسي
تغرقهـــــــــــا في دهش الســكون الحقيــــقي بالله
بعيداً عن سجـس هذا العالـــــــــم و عن حياة هذا الجسد البائد .
آخـــر قال :
الســكون يقطــع الأســـباب التي تجـــدد الأفكار ( العالمية ) و داخــل حصنه يبيـــدها ،
فتنسى الذكريات السابقة ،
و اذا مــا بليت المواد القديمة و نسيت فعنــد ذلــك يرجع العقـل الي التقــويم الطبيـعي .
آخـــر قال :
نـوع خفايـــــــــــــاك اعرفهــا من تميــيز معـــاني خلجـاتك الدائمـة ،
اذ لا أقــــــــــــــــــول عما يحصل عارضاً أو في وقت ما ثم تبطل لأنه
لا يوجد لابس جسد لا يخطـر له طــارق على بيتــه من الحـــالين الجيـــد و الـــــرديء
ان كان هو من النشـــطاء العمـــالين ، وذلك لأجل ضعف الطبيعــة
أو من العجز أو من الطبع نفسه أب الأولاد .
( حتى ) و إن كان (الانسان) من المتهاونين بالأمــور العاليــة
( فإن الأفكار الجيدة تأتيه أيضاً و ذلك )
لأجل ضمير النعمة الذي ألقي في طبيعتنا
بســبب أننا أخــذنا جنسية المملكـــة العظمـــى الســـامية .
آخر قال :
اختر لك العمل الذى يفيـــــض بالنعـــــم الذى هو ســــهر الليــل على الـــــــدوام
لانه به تجــرد الاباء من الانســان العتيق و استحقوا لبهجة العقــل ،
لان فى هذه الاوقات تحــــــس النفــــــس بتـــــــلك الحيــــاة غــــــير المائتـــــه
و بالاحسـاس بهــا تتعــرى من لبـــاس الظلمـة و تكون قابـــــــــــــــله للــــــروح.
آخر قال :
الانســـــــــــان اذا عـــــــاين وجوهــــــاً كثــــــــيرة
و ســـــــمع أصــــــــواتاً كثــــــــيرة مختلفــة غريبــة
فــــــــــــــإنه لا يتمكن من الهذيـــــــذ الروحـــاني ،
فإنـه اذ يتحدث و يتفـــاوض مع مثـل هـؤلاء
فلـن يتفرغ عقله لينظر الي ذاته في الخفاء
و يتذكـــــــــــر خطــــــــــاياه
و يهـــــــــــدم أفكـــــــــــاره ،
و يرصـــــــــــد ما يأتـي عليه ،
و يتفـــــــاوض في ( نفسه ) بالصلاة خفية ( أي في قلبه ) .
الانسان لا يمكنه أن يقمع حواسه لتكون تحـــــت ســــــلطة النفـــــس
من دون السكون و البعد عن الناس ،
لأن النفس العاقلة تتحد بهم ( أي تتجاوب معهم ) وتشتبك أقنومياً (معهم) ؛
و هي تنجذب الي حركات الجسد اذ لم تكن متيقظة بالصلاة الخفية .
السهر عنــــدما يكــون بانتبـــاه في الصـــلاة و القـــــراءة
فانــــــه ينعــم و يفــرح و يبتهــج و ينقــي النفس ،
و يعرف هذا بيقين الذين تدربوا بهذه السيرة كل زمان حياتهم بالنسك الحقيقي .
وأنت أيها الأخ محب السكون :
تمسك بهذه الإشارات التي من كلام الآباء ، وضعها قدامك
كمثــل الأماج ، و اليها صــــوب و قـــوم كل تــدبير ســيرتك ،
و قبل كل شيء تحكم بالأشياء ( أي كن حكيماً وذلك بواسطة الاسترشاد بالتعاليم )
التي توافـــــــق غرض عملك ، هذه التي من دونهـا لا يمكنك أن تثبت في معرفة الحق
فاحرص عليها جداً و اظهر تجلدك .
+ الســــــــــــكون هــــو ســــــر العــالم الجديد ،
الكــــــــــــــــلام هــو أرغن وآلة هـــذا العـالم .
+ الإنسان الصائم يدرب نفسه على التشبه بطبع الملائكة الروحانيين .
+ يتميز الإنســــان :
المــــداوم علي العمــــل الإلهـــي في خفــــــاياه ( أي في قلبه )
بسكوته و صومه الدائم ،
لأن بهذه الأســـرار تكمـــل الخدمــــة الممــــــلوءة أسراراً إلهيـة
( ويكمل في داخله ) تقديس (القوة ) الأزلية سيدة العـالم أجمع .
و الناس الذين اختاروا أن يدخلوا الي الأسرار الإلهية ، فلأنهم بهذا الرسم انطبعوا ،
فمنهـــــــم
مــــــن ائتمنوا على تدبــــــير شـــــــــعب عظيم ،
و بعضهم ائتمنوا على العناصر ( أي عناصر الطبيعة ) فكان لهم سلطان عليها ،
فبعجـب خضعـت لأمــرهم سائر طبائع الخليقة ،
و منهم من أؤتمن على الخفـــــايا المســــــتترة ،
التي ستكون في التجديد العام ( أي بعد القيامة )
و التي صمــت ســـــيد الكــل عـــن كشــــــــفها
أنه لا يوافق :
لبطن متخـم ممــــلوء و عقــل طائـــــــش مشتت من الشـــره
أن تتحـــــرك فـي القــلب هـــذه الأســــــرار و تخــــــــــــــــدم .
و لم يتجاسر القديسون علىالمفاوضة مع اللــــه و الارتفاع الي أسراره الخفيــــة ،
الا بضــعف الأعضـــاء و لون مصفــر من ألم الجــوع و عقل هــــــادئ
قد رجـــع الي مذاقه ( أي صفائه ) بالتجرد من جميع الأفكار الأرضية .
+ اذا جلست زماناً داخـــــل قلايتــــــك تســــلك بالأعمـــــال الصعبـــة
و الحفظ الخفي و القمع لحواسك من كل لقاء أو مقابلة ،
فحينئـــــــذ تحل عليك قوة السكون (وهي تتمثل في الاتى ) :
تصـــــــادف أولاً الفــرح والبهجــــة التي بغير سبب تتملك على نفسك من وقت لآخر ،
و عنـــد ذلك تنفتـــــح عينـــــــــاك و تنظـــــر عمــــل الله و حســــــن المخــــلوقات
و ذلك يكون بمقدار نقاوتك .
و اذا انجذب العقل بدهش هذه النظرة :
فالليل و النهار يكونان عنده سواء بالدهــش في تمجيــد أعمـــال الله ،
و في هذه الحال تسلب من النفس الآلام ( أي الشهوات الجسدية )
مــــن لـــــذة هـــــــذه النظــــــــــرة ،
ندخل الي درجتي الاستعلان العقلية الموضوعة في الترتيب
ثم بعد ذلك ننتقل من النقاوة الي فوق .
موضوعات ذات صلة :