الميمر الثامن
علي رتب المعرفة الثلاث
و علي إيمان النفس والأسرار المخفية فيها ،
و إيضاح مقدار تضارب معرفة هذا العالم
ووسائلها مع بساطة الإيمان
موضوعــات
الميمـــر :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إيمان النفس و الأسرار المخفية فيها :
+ النفـــــس التي سلكت في تدابيرها بالإيمان و نجحت فيه مرات كثيرة
فإن عادت للالتفــات إلي اســتعمال وســـائل المعـــــــرفة البــشرية ،
ففي الحال تحـــــــــــــــرم مـــــــن بركـــــــــــات الإيمـــــــــــــــــــــان
و تفقــــــد تلك القوة المعقولة ( أي الروحية ) التي تكون من الإيمـــان ،
التي تظهر ذاتها في النفس النقية من خلال معونات كثيرة ومؤازرات متعددة،
و تجعـل كل سلوكها بلا فحــــص و لا تفتـــيش بل بالبســــاطة فقــــــط .
لأن النفس التي سلمت ذاتها لله بالإيمان تمام ( أي كلياً )
و تذوقـــــــت مـــــــؤزراته و معونتـــــــــــــــه ،
لا يكون لها اهتمـــــام بذاتهــــا في التجـــــــارب الكـثــــيرة ،
بل تلجمهـا الصمــت والـدهش و لا تعـــود ترجــع إلى اســتعمال و ســائل المعـــــرفة ،
لئلا يحدث عكس هذا أي تترك من العناية الإلهية التي تفتقدها بصورة خفية علي الدوام
و التي تهتم بها في كل شيء وفي كل مكان ،
و ذلك لأنهـــــــا ازدرت و مقـــتت ذاتهـــــــــــــا ،
لأنه ليس فيها كفاءة أن تتدبر بقــوة معرفتهــا .
+ الذين يشرق نور الإيمان في قلوبهم :
لا يتجرأون أن يصلوا عن أنفسهم أو أن يطلبوا من الله قائلين :
أعطنــــــا كـذا و خـذ منـا كذا ، و لا يهتمـــون بتـدبير أنفســهم في أي شيء ،
بل بأعين الإيمـــان المعقولة ينظرون في كل وقت العناية الأبوية تظلل عليهم
من الأب الحقيقي ، الذي لا قياس لقوة محبته و التي تفوق محبة الآباء الجسدانيين ،
و هذا القادر علي تعضيدنا بأكثر مما نسأل أو نفكر .
المعرفة البشرية :
+المعرفة البشرية تتعارض مع الإيمان ،
لأن الإيمـــــــان يبطل كل قوانين المعرفة شرائعها ، و لا أعني بهذا معرفة الروح .
+ قانون المعرفة هو :
ألا يعمل الإنسان شيئاً من أموره بدون الفحص و التفتيش والتروي ،
بل يفتش أولا ًما سيحدث من الأمر و إن كان يمكنــه عملـــه أم لا ،
أمــا بالإيمـــــــــان : فالعمل يكون بغير تفتيش وفحص .
+ المعرفة : لا تفعل شيئاً دون استعمال وسائل و طرق قائمة ،
و هذا دليل واضح على ترددها و شكها في الحق
أما الإيمان فهو فكر بســـــيط يطلب أن يكـــــــــــــــون
بعيداً عن كل تصنع و تحايل و مكر و تفتيش .
فانظــر كيف همــا متضـــادان مع بعضهمـــا ،
بيت الإيمان هو : الفكر الطفولي و القلب البسيط حسب قول الكتاب :
" إن بوداعة قلب كانوا يمجدون الله " (أع 2 : 46 ،47 (
و حسب قول الإنجيل :
" إن لم ترجعوا و تصيروا مثل الأطفال ... "(مت 18 : 3 (
و أما المعرفة فهي : ضد هذين القولين .
+ المعـــــــرفة : إنما تلتزم بحدود الطبيعة في سائر طرقها ،
و أما الإيمان : فيجعــــــل مســـــلكه فــــوق الطبيعـــــــة .
+ المعرفـــة : تبتعد عن كل ما هو مؤذي للطبيعة ،
أما الإيمان فيقول بوضوح :
"إن سلكت على الحية والجردة و إن و طأت الأسد و التنين لا يؤذيانك "
( مز 90 قبطي : 10 ، مر 16 : 18 ، لو 10 :19 )
+ المعرفــــــة : يلازمها الجبن و الخـــوف ،
و أما الإيمان : فالثقــــــــــــة و الاتكــال ،
و إذا اتبع الإنسان وسائل المعرفة فلا يعتق من الخوف و لا يؤهل للحرية ،
و لكن إذ يســير بالإيمــــــــــــــان يكون حراً و مالكـــــــــــاً نفســــــــــــه
و كابـــــــــــن لله فانـــــــــــــــــه يســـــــتعمل كل شـــيء بســـــلطان .
+ الإنســـــان : الـــــذي حظـــــي بمفاتيـــــــح الإيمـــــــــــان
يكون مثل الله ( أي يتسلط ) علي كل الطبائع .
+ الإيمــــــــان : له ســـلطان أن يخلق خلقـــة جــديدة مثل الله .
كما قيل " شئت الآن ، فقام كل شيء قدامك"
و مـــراراً كثـــيرة يفعــــل أشــــياء من العــــــدم
و أما المعرفة : فمن غير مــادة لا تســتطيع أن تفعــل شـــيئاً ؛
و لا تجسر المعرفة على شيء ليس في قدرة الطبع البشري أن يفعله
مثل المشي علي الماء السائل بأقدام بشرية ،و لا الخوض في النار المتقدة ،
و لا أن يجسر علي أمور خطــرة ،
بل تحــذرنا المعــرفة من تجاوز هذه الحـــدود .
و أمـــــــــــــا الإيمـــان فبسلطان يأمر و يقول :
إن سلكت علي النار لا تحرقك و إن مشيت علي الماء لا تغرقك (اش43 : 2 (
و هذه الأعمــال صنعهــــا الإيمـــــان مــــرات كثـــــيرة مـــع كل الخليقـــــــة
لأن كثيرين : قامـــــــــــــــوا في وسط النار و لم تحرقهم
و مشـــــــــــوا على البحر كمثل أرض يابسة ،
و هذه الأشياء تفوق الطبيعة وهي على عكس طرق المعرفة .
انظــــــــــر : كيف زعــزع الإيمان طرق المعــرفة و أبطــل قوانينهــا وشــــرائعها ،
و مــــــــيز : كيف بالإيمان يجسر الإنسان أن يصنع سلوكه فوق حدود الطبيعة .
خمسة ألاف سنة و أكثر : كان العالم يتدبر بوسائل المعــرفة ،
و لم يتمكن الإنســان أن : يرفـــــــــع رأســــــه مــــن الأرض ،
و لا أن : يحــــــــــس بقــــــوة خالقـــــــــــــــه
حتى ظهـــــــر الإيمـــــان : و عتقنـــا مـــن شــــــقاء الأرضيــــــات
و من العبودية الباطلة و عدم الاستقرار
و حتــــى الآن بعــــــد أن : و جدنا البحر الذي لا قرار له (هذا تعبير عن الخيرات الأبدية )
و الكنز الذي ليس له حد ،
فإننــــا نشــــــــتهي أن : نرجـع إلى النزر اليسـير.
فليس معرفــــة إلا و هي : مفتقرة محتاجــة و لو كانــت موســرة جداً ،
أما الإيمــــــــــــان : فكنوزه ما تحويها السماء و لا يعوزه شيء .
الذي يسند قلبه بثقة الإيمان ،
و إن لم يكن يقتني شيئاً فله كل شيء كقول الإنجيل :
" إن كل شيء تسألوه بإيمان في صلاتكم تنالوه "(مت 21 : 22 (
و أيضاً قيل : " سيدنا قريب لا تهتمـــوا بشيء "(في 4 : 5 ، 6 ( .
المعـــــــــــــــرفة : تبحث عن الوسيلة لكي تحفـــــظ ما تقتنيـــــــــه ،
أما الإيمان فيقول : إن لــم يبن الرب البيت و يحفظ القرية ( أي المدينة )
فباطل تعب الذي يبني ويسهر ( مز 126 قبطي ) ،
و الذي يحتمي بالإيمان لا يمكنه استعمال وسائل المعرفة .
المعــــــرفة : تمدح الخوف دائماً حسب الحكيم : الخائف بقلبه طوباه ،
أما الإيمان : فقد قــــــــــــــال : " لما خاف بدأ يغرق "(مت 14 : 30 (
و أيضاً قال الرسول :
" لم تأخذوا روح العبودية لتجزعوا ، بل روح كنز البنوة ،
العتــــــق بالإيمــــــان و الثقـــــة بالله " (رو 8 : 15 (
و أيضاً : " لا تخف منهم لئلا أكسرك قدامهم " (تث 7 : 18 ، تث1 : 42 (
في كــل وقـــــــت : يلتصـق الشـك و التردد بالخـــوف
و يلتصـــــق بالشـــــك الفحــــــــص و التفتيــــــــش ،
و الحيـــل تتبـع الفحـص ، و الحيـل هي من المعرفة ،
و فحصهـا و تفتيشها يدل دائماً على الخوف و الشك ،
لأن المعـــــــــــــرفة : لا تصيـب و لا تنجــــح دومـــاً كمـــا قلنـــا من قبـــل ،
لأنه في أوقات كثيرة : تعرض أشــياء صعبـة و علل عســرة مملوءة خطـــراً ،
لا تقدر الحكمـــة و الحيــل أن تنجي منهـا لصعوبتهـا
لأنهــــا تفــــوق حــــــدود كل معــــــرفة بشــــــــرية ،
أمـــــا الإيمـــــــان : فـــــــــــــــلا يٌغـــــــــــــــــلب مــــــــــــن شـــــــــيء .
فبماذا تنفع المعرفة أو تؤازر أو تعين تجاه الحروب الظاهرة الحادثة الطبائع المنظورة
و القوات المتجسمة و أمور أخري !؟
لقد تبيـــــن لك الآن ضعـــــف المعرفة و عجـــــــــزها ،
و شجاعة الإيمان و عظمة قدرته .
المعـــــــــــــرفة : تمنع تابعيها عن كل شيء غريب عن الطبيعة ،
لكن انظر الآن قوة الإيمان كيف يأمر أولاده قائلاً :
" باسمي تخرجون شياطين وتدوســـون الحيــــات ،
و إن شربتم سماً قاتلاً لا يؤذيكم "(مر 16 :17 ، 18 ( .
المعــــــــــــرفة : تأمـــر كل من يســير في طريقهـــا ــ إذا أراد أن يفعــل أمـر ما ــ
أن يفحص عن نتيجته قبل البدء فيه ،
لئلا تكون الأفعال ( المطلوبة ) تحتاج الى قوة تفــوق الطبيعـة ،
فيضيع الجهد باطلا إذ يكـون الأمر فى آخرته عسر و غير ممــــكن ،
أما الإيمان فيقول : " إن كل شئ ممكن للذين يؤمنون، وليس عند الله أمر عسير "
( مر 23:9 ، مت26:19)
المعرفة مطلوبة للفضائل :
المعرفة : درجات ( أي سلم ) يصعد بها الإنسان إلي علو الإيمان ،
و إذا ما وصــــل إلي هنـــــاك لــــــم يحتـــــاج إليهـــــــا ،
الآن نعرف قليـــلاً من كـثير ، و نفهم قليـــلاً من كــــثير ،
و متى أتى الكمــــــــــــــــال بطـــــــل ذلك القليــــــــــل .
و الإيمان : مثل العينين يرينا حقيقة ذلك الكمال المزمع ( أي الذي سيكون ) ،
لأننا بالإيمــان نتعلـــــم و نعــــرف ذلــــك الشــيء
الـذي لا يــدرك لا بالفحــص و لا بقـــدرة المعــرفة .
جميــع أعمـال الــبر : إن كان صــوماً ، أو صدقــة ، أو سـهراًً ، أو طهــارة ،
و بــــاقي الفضــــائل التي تعمــــــــل بالجســــــــــد،
و أيضــاً محبــــــة القــــريب و اتضـــــاع القـــــــــلب ،
و تــــــــــــرك الزلـــــــــل ، و الهـــــذيذ بالصـــــــلاح ،
و الفحص عن الأسرار المكتومة في الكتب المقدسة ،
و المفاوضة بعمل الفضائل ، و ضبط شهوات النفس ،
و بــــاقي الفضــــائل التي تكمـــــــــل بالنفـــــــــس ،
هذه جميعها مفتقرة إلي المعرفة ، وهي لها ( أي الفضائل ) ،
و جميع هذه هي سلم به تصعد النفس إلي علو الإيمان ، وهذه تدعى الفضائل .
الإيمان مطلوب للسيرة الروحانية :
أما سـيرة الإيمان فهـــــــــــــــي فـوق الفضيلة ،
و عملهـــــا ليـــــس متعـبـــاً ، بـــــــل نيــــاح ( أي راحـــــة ) تــام و عــــزاء ،
و تكمل بكـــلام ( أي بهــــــذيذ ) فـي القـــلب
و بحـــــــــركات ( أي بأشـــواق ) النفــــــــــس .
و كـــــل درجـــــــــــات السيرة الروحانية العجيبة عملها هو :
الإحساس بالحياة الروحانية و تنعم النفس و سرورها ، و الفرح بمحبة الله ،
و لنعــــــــــــــــلم أن ســائر الأشـــــــياء التي تعطـــي في هــذه الســـيرة للنفــس
التي أهلت بالنعمة لتلك السعادة ــ حسبما تشير إليها الكتب المقدسة ــ
فإنهـــــــــا بالإيمان تكمل للنفـس مــــــــــن عنـــــــــــد الله الغزير العطايا .
و إن قال أحد : إن كانـت هذه الخــيرات جميعهــا و عمل الفضيلة
و كــل ما ذكــــــر آنفــــاً و البعــــــد عن الشــــرور ،
و الإحساس بالحركات اللطيفة المزهرة في النفس ،
و معاندة الأفكار و الجهاد مقابل الآلام (الشهوات)المغرية
و مــــا إلي ذلـــك ، و التـــي من دون عملهـــــــا
لا يقدر الإيمان أن يظهر قوته بعمله في النفــس ،
و إن هذه تكمل بالمعرفة فكيف يظن أن المعرفة ضد الإيمان ؟ .
لإبطال هذا الشك نقول :
إن للمعرفة العقلية ثلاث رتب تصعد وتنزل حسب تغير منزلة البلدان التي بها تسير ،
و أعني بقولي البلدان الجسد والنفس والروح ،لذا فالمعرفة تتغير و قد تنفع و قد تضر.
فالمعرفة : و احدة في طبعها و لكنها حسب هذه المنازل
( أي الجسد والنفس والروح )
سواء المادية أو غير المادية فهي تتغير في نوعهــا و في انفعـال حركاتهـــــا ،
فأنهــم الآن ترتتيب عملهـــا و الأســـباب التي من أجلهـــا تنفـــع أو تضـــر .
أو المعرفة هي : موهبة من الله جـــاد بهــــا علي طبــــع الناطقــــين ( أي البــشر )
أعطاها لهم منذ بدء خلقتهم ، وهي بسيطة و غير منقسمة في طبعها
كمثل نور الشمس ، لكنهـا تتغير حسـب العمـل الذي تسـتعمل فيـــه .
الرتبة الأولى للمعرفة :
إذا كانت المعرفة مائلة لمحبة الجسد ،
فإنها تجمع هذه المدخرات التي هي :
الغني ، المجد الباطل ، الكرامة البشرية ، الصلف ، نياح الجسد ،
التحـــــايل في حفظــــه من الأشــــياء المضــــادة لطبيعتــــــــه ،
و هذا النوع من المعرفة يدعى معرفة سطحية لأنها مجردة من كل هذيذ الهي ،
هي تدخــــــل إلى العقــــل ضعفــــــاًً لا يعــــبر عنـــــه ،
لأجل تمســـكها بالجسد و كل اهتماماتهـا بهـذا العالم ،
و هذا النوع من المعرفة لا يصـــدق أن ثـــــم قـــــوة معقــــــــولة ( أي روحيـــة )
و مدبراً خفيـــاً و عناية إلهية تهتـم بالإنســان و تحفـظه ،
بل كـــــــــل الخـــــير الذي يكـــــون للإنســــــــــان و كل صـــلاح يحـــــدث لـــه ،
و نجاتــــــه من المؤذيـــــــــات و حفظه من العـوارض الصعبـة
و المعاكســـات الكثيــــرة التي من الطبيعة الظاهر و الخفيــــــة
التــــــي يظـــــن أن: النجاة منها يكون من حرص الإنسان و حيله و حسن سياسته .
إن هذا النوع من المعرفة :
يناسب قول أولئك الذين يعتقدون أن :
ليس مدبر يســوس هذه المنظورات ،
لهذا لا يمكنها التخلي عن : الهــــــــــم و الخوف من أجل الجسـد ،
و لأجل هــــذا : فصغـــــــــر النفـــــــس و الكآبــــة و قطـع الرجـاء ،
و الخوف من الشياطين ، و الرعــــب من النـــــــاس ،
و أخبــــار اللصـــــــوص ، و أخبـــــــــــار المــــــــوت ،
و الجــزع مـــن : الدبـيب ، و الوحــوش ، و الوبـــــــاء و الأمــــــراض ،
و الاهتمــــام بالاحتياجــــات الطبيعيــة من القــــــوت ،
و الرعـــب مـن المــــوت و ما يشــــــابه هـــــــــــذه
تكـــون مثـــل أمواج البحر تضرب و تسجس في كل أوقات الليل و النهار ،
و لا تعــرف أن تلقـي همهـــا علي الله بثقــة الإيمـان بـه
و من أجـــل هـــــــــذا تستعمل الحيل و التصنــع في جميــــــــع تدابـــــيرها ،
و إذا لـم تنجـح حيلهـا لأي سبب و مع عدم إدراكها للسياسة الإلهيـة الخفية ،
فإنها : تخاصـــم النـــاس و تعــــاديهم كمعــوقين و مـــؤذين و باغــضين لهـــــا .
و بهذا النوع من المعرفة ترتبط شجرة معرفة الخير و الشــــر .
إن هذا النوع من المعرفة يستأصل الحب ، و يفحــــص عيـــــــــوب النـاس الصغـيرة
و زلاتهم و عجزهم ،و يثير المجادلات و يكثر الكلام و التصنع و المكر ،
و موجــود في هــذا الصنـــف كل الحيــل التي تعيــب الإنســــــان ،
مثل التكــبر و العظمــــة ، و الافتخــــــار ،
و يرجع لذاته كل ما هو لسلامته و ليس الله .
أما الإيمان فينسب كل أعماله لله و لأجل هذا لا يمكنه أن يتعظم
حسب قول الرسول : " على كل أمر أستطيع بقوة " . ( في 13:4)
" و ليـس أنا بل إنعـامه معــي " ( اكو 10:15 )
أما قول الرســــول : " إن المعـرفة ينفـــــــــــــخ " ( اكو 1:8 )
فعن المعرفة غير الممتزجــــــة بالإيمان و الثقـــــــــــــة بالله ،
و ليس عن المعرفـة الحقيقيــة ،حاشــاً و كلا أن يكـــون ذلك ،
لأن المعـــرفة الحقيقيــة تكمــل نفـــوس من وجـدوها ،
كموسى و داود و اشعياء و بطرس و بولس و باقي القديسين
الذي أهلوا للمعرفة الكاملة حسب قدرة الطبيعة.
فإنهم كانوا مفعمين بالمناظــــر و الاســتعلانات الإلهيــــــــة
و النظرة المتعاليـــة بالروحانيات و الأسرار التي لا ينطق بها ،
تلك كانـــت تبتلــع معرفتهــــــم عــــلى الـــــــدوام ،
و بالقياس لهذه تكون أنفسهم عندهم تراب و رماد .
أما المعـــــــرفة الأخــــــرى فبالضــــــرورة تنفـــــــخ
لأنها سائرة في الظلام ، و تقيس أمورها بالأرضيات ،
و لا تعـــــلم أن ثــــــم شـــــــــيئاً آخـــــــر أفضــــــــل .
و من يتبعونهـا فهـــم يزنــــون تدبيرهـــــم بما يضــــاهي العظمـــــــة و الأرضيــــــــــات
و أمور الجسد ، و يركزون على العمل ، و لا تقنع عقولهم إلا بما تدركه .
عن أولئك الذين يهدسون بأمواج لجة إشعاعات اللاهوت الممجـــــد
و اهتمـامهم بمـــــــا فـــــــي العــــــــــــــــــــــــــلا .
لا تميل أفكارهم ليهدســـــــــــــوا بخرافــــــات و أفكـــــار باطــــــــلة ،
لأن الســــائرين في النــــــــور لا يمكنهم أن يضلوا
و لأجل هـــــــذا فكل الذين تجردوا من نـــــــــــور معرفـــــة ابن الله
يزوغون عن الحــق و يسيروا في ذاك الســـــــــــبيل .
هــــذه هي المرتبة الأولى مـــــــــــــن المعـرفة إذا ما تبعــت محبة الجسـد ،
فإننا نرذلها و ندعوهــــــــا ليس فقط ضد الإيمان بل وضد لكل أعمال الفضيلة .
الرتبة الثانية من المعرفة :
اذا نبذت الغرض الأول ( أي الرتبة الأولى ) من المعــــــــــرفة
و رجعت إلى الهذيذ و محبة النفس ،
فجميع الفضائل التي ذكرناها تقوم بها خلجات النفـــس ( بسبب ) نـــور طبيعتهـــــا
تعملها بمشاركة الجسد التي هي :
الصوم و الصلاة و الرحمة و قراءة الكتب المقدسة
بقصـــــــــــــــد تعـلم الفضيلة و تعـلم الجهـاد مقـابل الآلام و الشياطين ، و ما غــيرها
و باختصار :
جميع الأفعال الحسنة و الأفكار و المعاني الفاضلة توجد في النظــر الداخلي للنفس
و الترتيبات العجيبة الموجودة في بيعة المسيح ،يتممها الروح القدس بفعــــل قـــوته
بهذا الصنف المتوســط من المعرفة ، و هي تطــرق سـبلاً توصل العقـل إلي الإيمـان ،
و بها نجمع زادا لعالمنا الحقيقي ذاك .
و الي هنا ما زالت المعرفة جســـــــــدية مركبة ـ و لو أن هذيذها بالفضيلة ـ
لأنهــــــا هــــي الطريق الذي يوصلنا إلــــــــــــي درجــــة الإيمــان .
و لكـــن ثــــم رتبـــــة أخـــــرى أرفـــع من هــذه و أفضــل تصـــل اليهــــــا
إن نجحت و نشطت بالتدريج بمعوــنة المســـيح و وضعت أساسا لعملهــا :
الانفــــراد عــن النـــــــاس و الهــرب من الأحــــاديث
و المفاوضـــة بقراءة الكتب و مداومـــــة الصــــــــلاة ،
هذه التي بهــا تكمــــــل باقي أعمـــــال الصـــــــلاح .
هذه هي الرتبة الثانية من المعرفة : التي بهــــا تعمــــــــــل كل الصالحــــات
و هــــي تدعي " معرفة الأفعـــال " :
لأنها بالأفعال المحسوسة بحواس الجسد
و تتم أفعالها بالترتيـــــــــب الخارج البرانى .
الرتبة الثالثة من المعرفة :
كيـــــــــف تــــــــذوق و تســـــــــــــــــمو و تقتنـى اتساع الآفاق الروحيـة
و كيف تشابه سيرة القوات غير المنظورة ، هــــؤلاء الـــــــــذين خدمتهم
ليســـــــــــــت هي بالأعمال المحسوسة بل تكمل بهذيذ العقل فقــط .
اسمع الآن : إذا ما ارتفعـــت المعـــــرفة عــن الأرضيات و عن هم الأعمـــــــال
و بدأت تفتــش بحركاتهـــــا عــن الأشياء المستترة عن نظر العين
و ازدرت و مقتت تذكر الأمور التي يكون منهـــا عـــدم الاســـتقامة
و الشــــــــــــــــــــــــــــهوات و دورانهــــــا داخــــــــل الفكــــــــــر.
ثم رفعت ذاتها إلي العـــلو ، و ألصقت بالإيمان بهذيذ العالم الآتي
و محبة الوعود الإلهية عنه ، و الفحــص عـــــن الغـــــــــــــــــوامض ،
عند ذلــــك: يبتلع الإيمــان المعــــــــــــــــرفة
ثم يرجــــع و يلدها جديدة ثانية ، و تكون جميعهـــا بالـــــــــــــــــــروح،
و عند ذلك : تتمكـــن من الطــــــــــــــــــــواف في بلــــــــــــــد غير الجســــديين ،
و أن تلمس أعمــــاق نهر التدبيـــــر الإلهـي العجـــــــــــــيب الذي ليس له قـــرار
و الموجود في الطبائع المعقــــولة (أي الروحيـــــة ) و المحســـــوســـــة ،
و تفحــــص عن أسـرار الــــــــروح التي تدرك بالعقـل البســـيط الدقيــــق ،
و ذلك عنــــــدما تنتبـــــــــــــــــه الحــواس الداخليـة لعمــــل الـــــــروح ،
فتتصرف طبقاً لحياة الأبــــدية التي ليـس فيهـــــا مــوت و لا فســــاد ،
لأنها قبلــــت القيـــــــــــــــامة بالعقــــــــــــــــــل ســـــــــــــــــــــــرياً .
و هنا يكــــــــــون الدليل الحقيقي علـــــــى ذلــــك التجــــديد العـــــــام
( أي القيــــــــامة لوصول النفــس إلـــــــــــــــــــــي حياة الدهر الآتي ) .
الأنواع الثلاثة للمعرفة :
في هذه الرتب الثلاث من المعرفة ينحصر و يتحــدد كل تدبـــير الإنســان
إن كان بالجسـد أو بالنفس أو بالـروح ،
لأنـــــه منــذ أن يبــدأ الإنســـان :
فـــي التمـييز بين الجيـد و الرديء
و حتى خــــروجه مـــن العـــــــالم ،
فإن معرفته تنحصر في هـــذه الثـــلاثة منــــــــــــــازل ،
فهـــــــي التي تكمـــل كـــل الإثـــم و النفـــــــــــــاق ،
و حــــــد كـــــل الـــــبر و جميـع العــدل ،
و هــــــي التي تلمس أعماق أســـــرار الـــروح كلها .
إنها معرفة و احدة فاعلة في هذه الثلاث رتب التي فيها تكون كل حركات العقل
التي بها يصعد وينزل ، إن كان بالصلاح أو بالشر أو بالوسط بين هذين .
و هذه الرتب يدعوها آباؤنا " الطبع " ،" و فوق الطبع " ، " و خارج الطبع "
حسب قول أو غريس ، :
إن كانت النفـــــــس :
تسلك حسب الطبــــــــع فهـــــــــــــــي تفعــــــل الــــــبر ،
و إن كانــــــت فوق الطبع تخطف ذاكرتها بثـــاؤريا اللـــــه ،
و إن خارج الطبع فهي تخـــرج لترعى الخنــــازير
مثل ذلك الذي ضيع غنى تميزه بعمله مع الشـــــــيطان .
النـــوع الأول من المعرفة : يجعـــل النفس باردة و يبعدها عن أعمال الصلاح والبر ،
و النوع الأوسط من المعرفة : يلهـــب النفس و يدفعها لحرارة السير بدرجة الإيمـان ،
و النوع الثــــالث : هو توقف النفس عــــن العمـــــــل ،
و هو مثال لما سيكون بعد القيامة ،
حيث تتنعم النفس بالأسرار المزمعة في الدهر الآتي بهذيذ العقل .
و لكــــن لأن الطبــــع الآن ما زال لم يرتفـــع بعــــد عن درجــــة المــــــــوت
و عن ثقل الجسد لكي يكون بكليته في تلك الروحانية المرتفعة عن الرغبة ،
و لا يستطاع أن يتصــــرف بكمال لا عــوز فيه فــــــــــي عـالم المــوت هـذا
و لا يتـــــرك طبيعة اللحم نهائيـاً ، إذ هو الآن يحيـا فيه و يتغــــير متنقـــــلاً ،
فانه يكون :
فــي وقت هذه الحـال الروحـاني ،
وفي وقت كمسكين و معـــــــوز تتفاوض نفسه في
الرتبة الوسطى من المعرفة بالفضـائل
التي وضعـــت في الطبــع للممــارسة
لأجـــــل طبيعــــــــــــة الجســـــــــــــد ،
وفي وقت مثل الذين حظوا بروح كنز البنوة بأسرار الحـرية تتنعــم بموهبة الـــروح
حسبما يشعر بإنعام المعطي المانح ،
ثم تعود أيضاً لمسكنة عالمها أعني الجسد الذي هي فيـــه .
و هي في و قت تتنعم بموهبــة الــــــــروح
لئلا لو اســـتمرت في حـــالة مســكنة الجســــــــــد
فإنه يســـبيها بالشـــهوة الموجـــودة في عالمـــــــه
بحركاتـــــه التـــي تســـجس به و تجعـــله متقــــــلباً
فطالما هي محصورة داخل حجاب اللحم فلا ثقة لها
إذ ليـــس في هذا العـــالم
عتــــق و حــرية كامــــلة ،
بــــــــــــــــــل كـل عمـــله تعــــب و جهــــــــــــــــــاد .
أما أعمال "الإيمان " فـــلا تعمــــل بالتعـــب بل تعمــــل بالحـــــركات الروحـــــــــانية
بفعل النفس المجرد من إرادة الجسد فهو فوق الحواس يكمـــــل .
لأن الإيمــــــــان هو ألطــــف من المعـــــــــــرفة و أدق ،
وكما أن المعرفـــــة ألطــــف من الأعمال المحسوسة ،
و جميع القديســـــين الذين أهــــلوا للتدبير الروحــــاني ،
الذي هو الدهش بالله فإنهم يتدبرون بقــــوة الإيمــــــــــان
و بنعيــــــــم التدبـــير الذي هـــــــــو فـــــوق الطبيعـــــة .
و قولي " الإيمان " :
لا أعني إيمان الإنسان بالاقانيم الأزلية المسجود لها وخواص طبيعتها
و بالتدبـــير العجـــيب الذي حصـــل للبشــر بتجســده من طبيعتنــــا ،
هـــــذه و إن كانـــت عظيمـــــــــــــة جـــــــداً ،
لكني أعني " بالإيمان ":
النور الذي يشرق في النفس من النعمة و بشهادة الضمير يثبت القلب
و يثــق بغير شــك مقتنعـــــاً بالرجــــاء البعيــــد عن جميـــع الظنـــــون
الذي ليس من : التقليد و سماع الآذان
و يري النفس بالعين الروحانيـة الأســرار المخفيــة فيها ،
وغنى اللاهوت المكتوم والمستتر عن أعين الجسدانيين
و يظهر بالروح للذين يتربون على مائدة المســـيح بالهذيذ بناموسه حسبما قال :
"إن حفظهم وصاياي أرسل إليكم الباراقليط الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ،
و هو يظهر لكم كل الحق( يو 14 : 15 ، 16 ، 17) "
و هذا المعـــــــــزي : يظهر للإنسان القوة المقدسة
التي تحل عليه في كل وقت و زمان ،هذه القوة هو الباراقليط ،
و قوة هذا الإيمان : تشــــتعل كل أجـــــزاء النفــــــس كمـــا مــــن حرارة النـــــــــار ،
و تجســر على الأشــياء الخطـرة بثقتهـا بالله و اتكالهـا عليــــه .
و بأعين الإيمــــان ترتفــــع عن دائـــــرة هــذه الخليقـــة المنظـــــورة ،
و يكون كالسكران على الدوام بدهش الاهتمام بالله بالنظر البســيط ،
و بمفاهيــــم عن الطبيعة الإلهية غـــير المنظـــورة ،
و ينتبــــه العقـــل لينظــــــــــــــر بالهــذيذ خفيـــــة ،
و ذلك إلى أن يأتي بغتـــــة ذلك الذي هـــو كمال الأسأرار و يؤهل لاستعلانه .
الإيمان يقدم للقديسين أسراراً إلهية لا ينطق بها .
فليجعلنا المسيح مستحقين لها
ههنا كعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــربون
و هناك بشكل حقيقي في ملكوت السماء مع جميع محبيه .
آمين .
في مقاصد أخرى من أنواع المعرفة .
المعرفة إذا
مــــــا كانت مرتبطة بالمنظـــــــــــورات و تدركها بالحواس فإنهـــا تدعي طبيعيـــة ،
أما إذا كانت مرتبطة بالقوات المعقولة ( أي الروحانية ) وبالطبائع غير المتجسمة
فإنها تدعى معرفة روحانية لأنها تدرك بالروح و ليس بالحواس ؛
و هاتان الحالتان يكــون تولدهمــا و فهمهــا من خارج النفس .
أما إذا كانت المعرفة عن الأزليــــــــة ( أي الله ) فهي تدعــى فــوق الطبـــع
و هى ليست معرفة لأنها أعـــــلا من كل معرفة ،
و النفـــس لا تقبـــــل الثاؤريـــــــا عليهــــــــــــــــا
و التصور بها من مادة خارج منها مثل الأولى ، بل تدخل معهـــا مـادة ،
فهــي نعمــة تظهـــــر في داخــل النفـــس بغتــــة دون انتظـــــــــار ،
لأن ملكوت السماء داخلنا و لا نتوقعه في مكان و لا يأتي بمراقبــــة ،
حسب قول سيدنا ( لو 17 : 20 ،21 )بل داخلياً يتصور خفية في العقل ،
إنه يظهر بغير علة و لا سبب و لا هذيذ نحوها ، لأن مادة العقل ليست هي مكانه .
المعرفة الأولي تكون من التعليم الدائم و الحرص على اقتناء الحكمة ( أي العلم ) ،
أمـــــــا الثانية فمـــــــن السيرة الصالحة و إيمان العقل ،
أمــــــا الثالثة هذه فهي من الإيمـــــــان فقط لأن هنا ( أي عندما يعمل الإيمان )
تبطل المعرفة و تحد أعمالها ، وتكون بغير حاجة لاستعمال الحواس .
و كلمــــــــا تنــزل المعــرفة عن هـــذا الحــد تثقـــل النفـــس ،
و إذا ما زاد نزولها ثقلــت أكثر و تصـل الأرض و الي الأرضيـــات .
و المعرفة هي : سيدة كل شيء ، و بدونها تتعطل كل الأشــياء و تبطـــــــل ،
و إذا ما رفعت النفس نظرها إلي فــــوق
و بسطت عيون حركاتها إلي السمائيات
و اشــتاقت لــــذلك الشـــيء الـــــذي ،
لا يبصــــــــــــر بأعـــــــــين الجســـــد
و لا للحـــــــــــم سلطــــــــان عليــــــــه ،
عند ذلـــــــــك بالإيمان يقوم كل شيء .