الميمر العاشر
بلوغ غاية تدبير السيرة يكون بهذه الثلاثة :
التوبة ، النقاوة ، الكمال .
و ما هي التــوبة ؟ : هي ترك الأمور السالفة و الحزن من أجلها .
و ما هي النقاوة ؟ : قلب رحيم على جميع طبـــائع الخليقــــة .
و ما هو الكمــال ؟ : هو عمق الاتضاع و رفض ما يرى و ما لا يرى ( أي كل شيء ) .
ما يرى ( بضبط الحواس ) ، وما لا يرى ( بعدم ) الهذيذ به .
سُئل شيخ مرة :
ــ ما هي التوبـــــــــــة ؟ قال : قلب منسحق.
ــ ماهو الاتضــــــــــاع ؟ قال : مضاعفة إماتة الإرادة في جميع الأشياء .
ــ ما هو القلب الرحيم ؟ قال : حرقـــــة القـــــلب عـــلى كل الخليقـــة :
علي الإنسان و الطائر و الوحوش و الدبابات و علي كل الأشياء ،
حــــتى أنــــــه من ذكرها فقط تفيض عينيه بالدموع من شدة الرحمة التي تعصر القلب،
و من كثرة شفقته يصغر القلب و لا يقدر أن يحتمل و لا أن يسمع أو ينظر أذية أو حــــزن
يصــيب أحــد الخــلائق حتى غـير الناطقين ، وعن أعـــداء الحــــــق
و عن الذين يأذونه يصلي بدموع لكي يحفظـوا و يسـامحهم ،و حتى أيضـاً على الدبيـب ،
و ذلك لأجـــل الرحمـة الغزيرة الفائضـــة في قلبــه بغير كيـل شبه الله
ما هــي الصــــلاة ؟
الصلاة هي : خلــــو الضمــير من كــل شيء من الأشــــــياء الحــاضرة ،
و قلب شخص نظره بالكلية لاشتياق الرجــاء المزمـــع في ( الدهر الآتي )
و البعيد عن هذا المعنى :
إنما يبذر في فلاحته خليطاً و كمثل من يحرث على ثور و حمار معاً .
ــ كيف يُقتنى الاتضاع ؟
بتذكر الزلات القديمة على الـــدوام ، و إنتظـــــــــــــــار قــــــرب المـــــــوت ،
و ثيــــــــــــــــــــــاب زريــــــــــــــــة ، و يختــار لنفسـه دومــاً موضعـاً حقيراً ،
و في كل شيء يسرع للعمل الحقير ، و عـــــــــــــــــدم المقــــــــــــــــاومة ،
و الصمــــــــــــــــت الدائـــــــــــــــم ، و لا يحـــــــــــــب لقــــاء الكـثـــــيرين ،
و يكــــون مجهـــولا ًو غـير محســوب ، و غير مميز نفسه بشيء من الأشياء ،
و يبغــض التحـــدث مــــــع الغـــــير ، و لا يحـــــــــــب الربـــــــــــــــــــــــح ،
و يكــون فكــره خاليـــاً من الحســـد ، و لـــــــــــــــــوم و عتــــــاب أحـــــد ،
و لا تكون يـــــــــده عـــلي أحـــــــد ، و تكون يد الكل عليه ( أي مظلوما من الجميع ) ،
و يكـــون منفرداً فيما يخصـه متوحدا ،ً و لا يهتم بشئون أحد على الأرض إلا نفســـه ،
و باختصار : الغــــربة و المســـــــكنة و الانفــــــــــــــراد في تصــــــــــــــــــــرفاته .
فهـــذه تولــــــــــد الاتضــــــــــاع و تطهـــــــــــــــــــــــر القــــــــــــــــــــــــلب .
أدلة و علامات الذين وصلوا إلي الكمال هي :
أنهم لو سلموا كل يــــــوم عشرات المرات للحـــريق لأجــل محبــة النـاس
فلا يشبعون من حبهـــــــم مثل ما قال الطوباني موسى لله :
" إن لم تغفر لبني إســـرائيل إمحني من سفرك الذي كتبت"( خر 32 : 32 (،
و كقول السعيد بولس : أنا الذي جميع العالمين مع كل شرقهم ( مجدهم )
لا يقدرون أن يفرزوني ( يبعدوني ) عن محبة المسيح ( رو 8 : 35 ، (39،38
أريــــــــــــــــــــــد أن أفرز عن المســـيح و بنو إســـرائيل يدنـون من إيمـان الحيــــــــاة
إن كــــــــــــان يســــــــــــــتطاع هــــــذا أن يكــــــــــــــون
لكي ببعــدي يكـــون قربهم و يؤمنون بالمسيح و لا يتغربون عن اللــه الحي( رو 9 : 3 (
و كقــــــــــــــــــوله " أنــــي افــرح بالضـــوائق لأجلكـــم أيها الشــــعوب " ( كو 1 : 24 (
و كبقيـــــة الرســـل الــــذين من أجــــــــــــل محبــة الناس قاســوا ميتــات شـتي .
و أكثر من هذا جميعه :
إن اللــــه ســـيد الكــــل لأجل محبته للخليقة سلم ابنـــه لمــوت الصليب ،
لأنه هكذا أحب الله العالم حتـــــى بـــــــــذل ابنه الوحيـد من أجله (يو3 : 16 (،
و ليـــــس أنــــــــــــــــــه كــــــان يقـــــــــــدر أن يخلصنـــا بشــيء آخـــــر ،
بــــــــــــل أراد أن يظهر لنا بذلك كثرة محبته ،لكي بمــوت ابنه الوحيـد يقدمنـــا إليــــه ،
و لــو كـــــــان له شــيء آخـــر أكـرم منــــه كان يعطيه لنا لكي يخلص به جنســــــــنا .
و من أجـــل كـثرة محبته لم يشأ أن يغضب حريتنا
إذ كان قــــادراً على ذلك ، لكنه يشـــــاء أن ندنــــو إليه بدافــــع من محبتنـــــا ،
و هوذا سيدنا أطاع أباه من أجل حبه لنا ، و قبل على نفسه الآلام و الاحتقار بفرح.
حسب قول الكتـــاب : "أنه لأجل فرحــه احتمل الصليب وجسر على الخزي"(عب 12 : 2 (
من أجل هذا قال سيدنا فـــــي الليــلة التي أســــلم فيهــــا للصـــلب :
" هذا هو جسدي يعطى للحياة لأجل خــــلاص العــــــالم.
و هذا هو دمـــي الذي يهرق من أجل الكل لغفران الخطايا "( مت 26 : 28 (
" و لأجلكم أقدس ذاتي " ( يو 17 : 19 .(
و هكـــــذا جميــــع القديســـــين و صلوا إلي هذا الكمال ،
عندما تشبهوا بالله بفيض الحب و الرحمة على البشر ،
لقد كانوا يفرضون على أنفسهم التشــــبه بالله بمحبـــــة القريـــــب حــــتى أكمـــلوها .
فهكــــذا الآبــــــــاء المتوحدون
كانوا يضعون على أنفسهم التشبه بمصدر الحياة المسيح سيد الكل .
فالقديس أنطونيوس :
ما رأى قط أن يفعل ما يناسب و يصلح له بـــل ما ينفــــع القـريب ،
و كان لــه هذا اليقين ، أن نفع القــــريب هــو عمــــــل فاضــــل .
و حسب ما قيل عن الأب أغاثون أنه قال :
" أريد أن أجد إنساناً مبتلياً في جسده فأعطيه جسدي و آخذ جسده " .
فهـــــذه هي النظـــرة الكامــلة للفكـــر و هـــو أن يريح قريبـه بما عنـده ،
كمثــــل ذاك الذي كان له ثـوب مخيـط فنظره واحد و رغـــــــــب فيـــه
فلــم يتركـــه يخــــرج من قلايتـــــــــه حتــــــــــى أعطــــــــــاه لـــــه ،
و أشياء كثيرة مثل هذه قد ســـطرت عنهم ( أي عن القديســـــــين ) ،
و كثيـــــــــرون أســـلموا نفوســهم للنــار و السـيف و الوحــوش من أجــــل أقربائهــم ،
و لكــــــــــــن لا يمكن لأحد أن يبلغ هذه الدرجة من المحبة إلا إذا شعر خفية بالرجـــاء .
و لا يمكــــــن للذين يحبون هذا العالم أن يقتنـوا محبة البشر ،
لأن الـــــــذي اقتنـــى الحـــــــــــــب قـد اقتنى الله معــــــه ؛
و بحكـــــم الضــــــــرورة :
أن الذي اقتنــى اللــه : لا يـرى أن يقتني معــه شيئاً آخر حتى أنه يتجرد من جسده ،
أما إن كان يقتني العالم و يحـــــــب الحياة الوقتية فهــــي لا تدعـــــه يقتنــــــــــي الله
حسبما شهد هو و قال :
إن مــــــــن لــم يرفـــــض كل شيء و يبغــض كل الأشياء
حتى نفسه لا يستطيع أن يكون لي تلميـــذاً ،( لو 14 : 26 . (
أي ليـــس فقـــــــط يرفـــض الأشـــــــياء بل و يبغضهـــــــا أيضــــــاً.
وإن كـــــــــــــــــــان من لا يترك العالم لا يستطيع أن يكون له تلميذ
فكيـــــــــــــــــــــف يمكــــــــــــــن أن يســــــــــكن فيـــــــــــــــه .
ســـــــــــؤال :
لماذا الرجاء حلو لذيذ ، و أتعابه خفيفة ، وعمله سهل على النفس ؟
الجـــــــــواب :
لأجــــل الاشتياق الطبيعي العامل في النفـــــس ،
و هــــو يســقيها و يرويهــــــا كــــأس الأمــــــــــــل
و مـــن تلك الساعة لا يحس (المتمسكين به) بتعب ،
و يظلون بغـــــــير إحســــــــاس بالضـــــــــــــــوائق .
و في كل مسيرهم يظنــون كأنهـــــم محلقين على أجنحـة الهـواء
و غـــــير ســــائرين بأقــــــــــــدام بشـــــــرية ،
و لا تظـــهر لهــــــم صعوبة الطريق و خشونتها ،
و لا أن أمامهــــــــم أوديــــة و روابـــي و تـــلال.
بل يصــير الوعــــــر قدامهـــــــم ســــــــــــهلاً ،
و المكـان الصعــــب كالـــــــــــــــــــــــــــــــبرية ،
لأنهــــــــــــــــــــم ينظــــرون دائمـــــاً إلي حضـــــــن أبيهـــــــــم ،
و هــــذا الرجـــــاء يكون مثل الإصبـــع يشــير لهــــم و يريهــــــم ،
الأشــياء البعيــــدة غير المـرئية على حقيقتها ،
و يتفرســــــــــــون بعـــين الإيمـــان الخفيـــــة .
لأجــــــــــــــــل إن كل أجــزاء النفــــس تلتهــــــــــــــــــب كمـــا بالنــار ،
اشـــــــــتياقاً إلـــي الأمــور البعيـــــدة أنهـا قريبـــة ،
والي هناك يمدون لواحـــظ أفكارهـــــم و يســــرعون إلي بلوغهـــــــــا ،
و إذا دنــوا لعمــل واحدة من الفضـــائل فلا يعملونها جزئياً بـــل كليـــــاً ،
محتـــــــــوية الكــل (أي كل جوانبهــا) مــرة واحـدة ،
لأنهـــــــــــــــــم لا يســـــــيرون فـي الطـريق الملـوكي مثل كل أحد ،
بـــــــــــــــــــــــــــل يختـــــــــــــــارون سبلاً قاطعة ،
استطاع السير فيها أفراد من الجبــابرة و الشـجعان ،
تلك ( الســــــبل ) توصلهـم بســهولة إلي المنـزل .
إن الرجــــــــــــاء يشـــــــــــــــــعلهم مثــــــل النـــــــــــــار
فلم يهدئــــــــــوا عن ســـــــــــــرعة جريهـــــم الدائــــــــم لأجــــــــل فرحهــــــم ،
و يحدث معهــــم ما قاله ارميا النبي :
" إني قلت لن أعود اذكره و لا أنطــــق باســـــمه ،
فصار في قلبي مثل النــــــــار المتوقـــــــدة المضطربة في أعضائي "
) ار 20 : 9 )
فهكذا يصــــــير ذكر الله في قلوبهـم إذ ســـــــــــــــــــــكروا برجـــــــاء مواعيــــــــده .
و أنا أعنـــــــي بالســـبل القاطعـــة الفضـــــــــائل التــــــامة
التي ليس فيها طــــــــواف و دوران ( أي ليس فيها تراخي )
و لا الحاجـــــــــــــــــــة إلي وســـــائل أخــــرى ،
و لا يظنـــــــــــــــــــــون زمـــــــــــاناً لبلوغهـــــا ،
بل ما أن يبدأوا في الفضيـــــــلة حتى يكملوهــــــــــــــــا في الحـــــــــــــــــــــال .
ســؤال : ما هو تحرر الإنسان من الآلام ؟
الجواب : التحرر من الآلام
ليــــــــــــــــس أن ( الإنسان ) لا يحس بالآلام ( أي حــروب الشــــهوات ) ،
بل أنه لا يقبلهــــا بسبب كثرة الفضائل المتواترة التي اقتناها ظاهراً و خفياً،
حيث تضعف الآلام و ليـس مــــن الســـــــــــهل دخولهــــــــا إلي النفـــس ،
و لا يهتم الفكـــــر بالالتفات إليهـــــــــــــــــــــــا فــــــــــــــي أي وقــــــــت ،
لأنه ممتلئ دائمـاً بحركــاتهالتي هي الهذيذ و مفاوضة أمـــور فاضلة و معانيهـا
المتحـــــــركة في العقــل .
و إذا ما بــدأ الألــم يتحــــــــــرك يختطــــــــف الفكـــــر فجـــــــــــــأة
بسبب المعــــاني التي تظهــــر في القـــــلب ، و يصبح الألم بلا تأثير ،
حسب قول القديس مرقس :
" أن العقـــــل الذي كمـــــــــــل أعمــال الفضيلة بنعمـــة الله و دنا من المعرفة
لا يتأثر كثيراً بمــــــــــــــــــــــا لا يليــــــــــــــق بالنفــــــــــــــــــــــــــــــس ،
لأن معرفتــه تختطفه إلي العلو و تبتعـد به عـن جميــــــع أمــــور العــــــالم " .
لأن أولئك فمن أجــــل طهارتهـــــم تلطــــف عقلهـم و رق و صـــــار جـــاداً نشـــــطاً
و من أجــــــل النســــــــك يتنقـــــى العقـــــــل ، و الجســــــــم ييبــــــــس
و من التفـــرغ في السكون ، ومع طول المدة فيه ، يلحظ شيئاً ( غير عادي )
حيــــــــــــــث تجذبه الثاؤريا ( أي الرؤيا الإلهية ) إلي الدهـــــش و التعجـــــب ،
و حيــث تكـــون الرؤيا متواترة ، فلا يحتـــاج بعـــد إلي وسائل لفهـــم الأفكـــار ،
إلي جــانب أن الـــــــــــروح يحـــــــــــــرك فيهــــــــــــــــــم أثمـــــــــــــــــاره ،
و من تعود هذه الأمــــــــور ( السامية ) لزمان طـــويل فإنهــا تقطع من القــلب
أي ذكريــــــات تحـــــــــرك الآلام في النفـــــــس ،
لأن الآلام لا تصـــــاحب هــذه الأمـور مـادام الهذيـذ بهــا ( في القـــــلب ) ،
لأنه قد خُطف بهذيذ مستمر بتلك التي تنشب مخالبها بقوة الحواس الروحانية.
الاتضاع :
ســؤال : ما هي خواص الاتضاع ؟
الجواب : إن الكبريــــاء يشـــتت النفــــس فتطيـــــش في تخيـــــــلات ( كثــــــــيرة ) ،
و من شدة تأثيرها تحملهـا سحابة الأفكار لتطوف بكافة الخلائق ،
و أما الاتضاع فهو ضابط للذات بسـكون الأفكـار و قابض للنفـــس في داخلهــــا .
ــ كما ان النفــــــــــــــــــس ليســت معروفة و لا منظورة لأعين البشر ،
كـذلك المتضـــــــــــــــــع فهــو غير معروف بيــــــــــــن النــــــــــاس .
ــ وكما ان النفـــــــــــــــس مســتترة داخل الجســـد عن النظــر و لا تختلـــط بأحـــــد ،
هكذا المتضع الحقيقي ،فهو لا يشاء فقط ألا ينظره الناس بتواريه و انعزاله عن كل أحد
بــــل و حتى عن نفسه ـ إن أمكن ـ أن يكون منغلقاً و جامعـــاً فكـــره
و يغوص داخل نفســـــه بالســكون التام لحركـــــــاته مع حواســــــه ،
كأنـــــه غـــير موجــــــود بين الخليقـــة و لا أتــى إلي الوجـــــــــــود ،
و غـــير معـــــروف حتى من نفســه إذا كــــــان موجــــــــــوداً
و بمقــــــــــــــدار ما يكون منغلقـــاً عن العــالم مختفياً متوارياً
بقـــــــــــــــــدر ما يكــــون قريبـــــــــــــاً إلي ســـــــــــيده .
المتضع لا يفـــــــــــــرح أبــداً بالجمــــوع ، و لا بكثرة ضوضاء الناس و الضجيـج و الحديث ،
و لا بالســــــــعة و بحبوحة (الحياة) ،و لا بالاهتمامات التي تثير الطموح و التشتت ،
و لا بالمفاوضـــــة و الحــديث ( أي المناقشات ) التي يكون منهــا جنوح الحـواس ،
بـل يفضــــــــــــــــل الانعـزال و الرجـــــوع إلي ذاتـــــــه أكـثر مــن كـــــــل الأشـــياء
لكــــــي تهــــــــــدأ نفسه و تسكن تمامــــــاً :
و يكــــــون التجـــــرد محبــــوباً لديـــــــه و كذلك المسكنة و العــوز ،
و لا يلقـــــي نفســه في مشـــاغل كثيـــــرة و أعمــــــال عديــــــدة ،
بل في كـــل حــــين يريد أن يكون متفرغاً بلا اهتمامات وغير مضطرب بالأشياء الحاضرة ،
حتى لاتخرج أفكـــاره خارجاً عنه لأنه يعلم أن الأعمال الكثيرة تحــدث اهتمامــات شتى ،
والاهتمامات الكثيرة تولـد أفكــاراً غــــزيرة و بهــــــــذا يخـــــــرج عــــن الهــــــــــــــدوء ،
فعليــــــــــــــــــه أن يرتفع عن كل هم أرضي ما خـلا الأمـور الضـرورية التي لابـد منهــا ــ
ليحافـــظ عـــــــــلى ســـــــــــــلامة أفكــــــــاره ،
و يكون الضمـــــير حامــــــلاً اهتمـــــاماً واحــداً بحركــاته الهـــــادئة .
إن لم يبتعــــــــد الإنســــــــــــــــــــــان عن المحـــــــــــــــــــــادثات
فبالضـــــــــــــورة إما أن يــــؤذي أحـــــداً أو يتــــأذى من أحـــــــــــد ،
و من ههنـــــــــا ينفتـــــــــح بــــــــاب الآلام ( أي المحـــــــــاربات ) ،
و يفتقد ميزة الهدوء و يهرب منه الاتضاع باب السلام .
فمن أجل هذه الأسباب :
( فإن المتواضع ) يحفظ نفسه علي الدوام من أمور كثيرة كي يوجد في كل وقت
هادئاً في سكون منقبضاً ( أي غير مشتت الفكر ) مسالماً لبيباً .
ملحوظة : اللبيب هـــــو العاقـــــل لا كثـــير الكلام كما يظــــن بعض العـــامة .
ــ المتضع لا يعرف الانزعاج و لا الاضطراب ، و لا حركات حادة متسرعة متعجلة ،
فحتى و إن أطبقت السماء على الأرض ، فالمتضع لا ينزعج و لا يتســجس .
ليس كل لبيـــب متضــــع ، و لكن كل متواضــع لبيـــــــب ،
و لا تجــد متضعاً غير لبيب ، أمــــــــــا لبيــــــب غير متضع فكثير ،
فالمتضـع هادئ حسب ما قال ســـيدنا :
" تعلموا مني لأني وديع متضع في قلبي ،
و بهــــذا تجـــــــدون راحة لنفوســــــكم " ( مت 11 : 29 )
المتواضــع يكـــون هادئـــاً في كل وقــت و ليــس شـــيء يحـــرك ( أي يثير ) فكـــــره ،
فإن كان سهل أن يحــرك الإنسان جبلاً ،لكن لا يمكنه أن يحرك أو يزعج ضمير المتواضع ،
و ليس ما يمنع من القول أن :
المتواضع ليـــس هـــــــــو مــــن هــــــــذا العـــــــــــــــــالم ،
لأنـــــه لا من الأشياء المزعجـــة المحــزنة يضطرب ،
و لا من الأمــور المفرحــــة يبتهــــج و يفـــرح ،
بـــــل فرحـــه و ســـــروره الحقيقـــــــــي هــــــــو
في مرضــــــاة و فـــــــرح ســــــــــــــــــيده .
يعقب الاتضــاع : الـــــــرزانـــــــة و انقبــــــاض الــذات ، و ازدراء الثيـــــــــــــاب ،
وصوت منخفض و كــــلام قليل ، و احتقـــــار للنفــس ، و مشـــــي مـــــرتب ،
و نظر مطاطئ ، و راحمة فائضة ، و ســــرعة الدمـــوع ، و نفـــــس منفــــــردة ،
و قلب منكســر منســـــــحق ، و عدم تحرك الغضـب ، و انضبـــاط الحــــواس ،
و القناعــــة في الأشـــــــياء، و اســــتخدامهـــــــــا ، و يكون محتملاً صبوراً ،
( له ) شجاعة القلب الناتجة عن بغضة الحياة الوقتية .
التجلــــــد في التجـــــــــارب ، حركـــات هــــــــــادئة غـــــير متســـــــــــرعة ،
هـــــــــدوء الأفكــــــــــــــــار ، كتمــان الســـــــــــر ، التعفف ، الحياء و الخجل ،
و أكــــثر من هــــــذا كــــــله : الصمت علي الدوام ، و ادعاء عــــدم المعــرفة .
المتضـــع لا تصادفه أبــــداً ضرورة تجعله يتسجس .
المتواضع يحتشم و إن كان مع نفســــه وحـــــــده .
أنا أعجـــــــــب إن كان ثم متواضــــــع يجســر أن يطلب من الله شــيئاً في الصلاة ،
أو إذا دنا منهــــا يعتــــــــبر نفســــــه أنه أهـلاً أن يطــــــــــــلب منـــــــــه شـــيئاً .
أنه لا يعــــــــرف ماذا يطلب ، بل يكون هادئــــــاً في جميــــع حركــــاته ( الذهنية ) ،
و فقط ينتظــــــــر أن تأتيه الرحمة،(و ينتظر) أي أمر يخرج عليه من العظمة المسجود لها ،
و يكــــون وجهـــــــه منحنــــــــــــــــــــــــــــــي إلي الأرض
و نظـر قلبه الداخلي شاخص لباب قدس الأقداس المتعالي
الذي إشـــــــــراقه يبهر عيني الســــــــارافيم ،
و شــــــــــــــعاعه يرهب طغمــات صفوفهــــم ،
و الصمـــــــــــــــت سائد على جميع مراتبهــم ،
و ينتظــــــــــــــرون ظهور الأســرار من لدن الله ،
و حـــــــــــــــــركة بلا صــــــــــــــــــــــــــــوت ،
و حـــــــــــــــواس غـــــير جســـــــــــــــدانية ،
و بإحسـاس لا يشـبه ، يستعلن عليهــــم بجوهر غير منظور ،
هذا الذي يعطيهم قوة و شجاعة ليتجلدوا تجاه لجة الأسرار .
و هـذه الأشـــياء حددناهــا بألفــاظ بســيطة لا يــدرك العقـل فحصهــا ،
و أنـــا لـــم أهتــم بــــذلك بهـــدف اســــتعراض الأقــــــوال بـــل لأن :
من قراءتهـــا فقط ينسى العقل أعمال العالم و سيرته و حياته الجسدية ،
و ينتقل بفكره إلي عالمه الحقيقي .