الميمر الرابع والعشرون
عظم منزلة الاتضاع
و إرتفاع درجته عند الله
موضوعات الميمر :
ــــــــــــــــــــــــــــــ
أريد يا أخوتي أن أفتح فمي و أتكلم مخبراً عن الاتضاع الشريف ،
و لكني خائـف كمثـــــل مـــن يـــريـــــــــــد أن يتكلـــم عن الله ،
لأن التواضـــع هو حلة اللاهوتالتي لبســـها الكلمــــة الأزلي
عندما تجسد ، وتكلم معنا بواسطة الجســـد الذي أخذه منــا .
وكل مـــن يرتديهــــــــا فقـــد تشـــــبه حقــــــــاً بالـــذي نــزل عـــن ارتفـــــاعه
وأخفي شعاع عظمته وحجب شرف مجده حتى لا تُفني الخليقـــــة بمنظـــــره .
لأن الخليقة
ليس لها القــــــدرة على النظر إليه إن لم يكن له ذلك الشيء الذي أخذه (أي الجسد)
و به تكلـــــم معنـا ،لأننا لا نقدر أن نسمع فمــه (إذا تكلم معنا ) وجهـــــاً لوجـــــه ،
هذا الذي لم يقدر بني إسرائيل أن يســمعوا صوته عندمــا تكلم معهـم من الغمـام ،
فكيـــــــــــــــــــف تستطيع الخليقة الآن أن تحتمل نظره ،
فلذلك قالوا لموسي :
هو يتكلم معك و أنت تسمعنا ألفاظه ،ولا يتكلم هو معنا لئلا نموت (خر 20 : 19 ) ،
و كان هذا المنظر مخوفـــاً جــداً ،حــتى إن الذي كــــان وســــيطاً ( أي موسي )
قال إني خائف ومرتجف ( عب 12 : 21 ) ،
لأنـــــه لما ظهر شعاع مجده علي طور سيناء كان كله يدخن ،
و تزلزل بسـبب اســــــــتعلام ظهـــــوره عليــــــــــه ،
حتى إن الوحوش لما دنت من أطــراف الجبــل كانت تُنفـــق ،
و بأمر موسي أستعد جميــع بنــي إسرائيل و طهر كل واحد منه نفسه ثلاثة أيام
لكي يؤهل لسماع كلام اللـــه و لنظــــــــــــــــــــر اســـــــــــتعلانه ،
ولما حان الوقت ما اســتطاعوا أن يحتمــلوا نظـر نوره و سماع شــدة صــوت رعده .
و الآن أفـــــاض إنعامه علي العالم بمجيئه بلا صوت و لا نار و لا صراخ شديد مرعب
بل نزل كالمطــــر على جــــــزة الحمــــــلان ،( مز 71 قبطي 72 : 6 )
و كالنـــدى المنحــــدر بهـــدوء عـــلى الأرض ،
لأنـــــــــــه أراد أن يتكلــم بـــــزي أخــــر إي أخفي عظمته بحجــــاب الجســــــد ،
الذي نســجه خفيـــــــة في بطـن العــذراء و الـــدة الإله مريــــــم
لكي منا و بنا يتكلم معنا ،حتى إذا رأينا أن المتكلم معنا من جنسنا لا نرتعب من رؤيته
و لأجل هـــذه فكــل من يرتدي هذه الحُــــلة ( أي التواضــع )
التي بها ظهر خالقنا بالجسد الذي لبسه فهـو
يلبـــــس المســــيح ،
لأنه على شبهه الذي ظهــر به لخليقتــه وتصــرف به معهــم .
لقد اشتهي أن يلبس هذا على إنسانه الداخلي و به يظهر لرفاقه ،
و عوض لبُاس الكرامة و المجد الظاهري تزين بالاتضاع ،
لهـــذا فكــل من تنظره الخليقة ــ سواء الصامتة أو الناطقة ــ لابساً هذا الشبه
فإنهم يسجدون له كمثل الرب .
و ذلك لأجل كرامة سيدهم ،
لأنهم نظـــروه قد لبس هذا و تصرف به في العـالم .
أي من الخليقة الذي لا يستحي من نظر المتواضع !؟ .
إلي الوقت الذي ظهر فيه مجد التواضـــع الممـلوء من القداسـة ،
كان محتقراً من كل أحد و الآن لما ظهرت عظمته أمام العالم كله ،
فكـــــــل أحــــــــد يوقر و يكــرم هذا الشــبه في أي موضـــــع ينظـــــــــــــــــره ،
لأن بهذه الواسطة اســـتحقت الخليقـــــــة أن تعاين منظــــــر خالقهــــــــــــــا ،
ومن أجل هذا أيضاً ، فهــــــــــــو ليــــــــــــــــــــس مرذولاً و لا من أعداء الحق ،
و لو كــان لابســــه أحقــــــــر كـــــــــــل النــــــاس .
الذي عرف التواضــع يكــــرم به مثـــل الديباج و الأرجوان .
المتواضـــــــــع لا يبغضــه أحد و لا يحــزنه أحد بكلمــة و لا يـــزدري به ،
لأن سيده جعله محبــوباً عنــد الكـل ، ويحبــه كل أحد ،
وفي أي موضع يحل فيه ينظرون إليه مثل ملاك نور و يخصونه بالكرامة .
يتكلـم الحكيــــم و الفيلسوف فيسكتوه ليعطوا الفرصة للمتواضع ليتكلم ،
و يكون الجميـــع منصتاً لمنطــق فاه ،
و تكون ألفاظــــه عندهم كألفاظ الله ،
و بساطة منطقه كمثـــل منطــــق الحكمـــــاء و الفلاســــــــــــفة ،
يفتشون عن معناه كلامه حلو في مسامع الحكماء
أكــثر من مـــــذاق الشـــــهد لآكليـــــــــــــــــــــه ،
وعند كل الناس محسوباً إله ، و لو كان أُمياً في كلامه حقيراً في منظره .
الذي يتكلم على المتواضع بالاستهزاء أو الازدراء لا يُحسب من الأحياء ،
و هو مثل إنسان أطلق لســانه عــلى الله ،
و كلما يحتقر المتواضع ذاته و يرذلهـــــا في عينــــــــي نفســــــــه
تتوافــــــر كرامتــه عند ســائر الخليقــة .
الوحوش تخضع للمتواضع :
يدنــــو المتواضـــــع من الوحوش الكاسرة و في الحال عندما تنظره
تهـــــــــــــدأ طبيعتهــــا الوحشــية و تدنو منه
و تحتمـــــــي بـــه كمـــــــــا بخالقهـــــــــــــا ،
و تحرك أذنابها و رؤوسها قدامه و تلحس يديه ورجليه ،
لأنها تشتم فيه الرائحة التي كانت تشتمها من آدم في الفردوس
قبل أن يتجاوز الوصية ، عندما تجمعت إليــه
و وضع لها أسماء في الفردوسالذي أخذ منا ،
وعاد سيدنا المسيح و جدده و أعطـــانا و منحنـــا إيـــاه بمجيئـــه ،
لأنه هو الذي جعل الطيب رائحة جنس البشر .
وإن دنا المتواضع من الدبيب الســامة القاتلة ،
فعندمــــا تلمــــــــــس يــــــــده أجســـــــــــــامها
يبرد سم شرها القاتل ، ويفركها بيديه مثل الجراد ،
و إذا ما اقترب من الناس ينظرون إليه كما إلي سيد ،
و لماذا أقول النــــــاس ؟ !بل و الشــــــــــياطــين ،
فرغم مــــرارة شــــرورها و افتخـــار قلوبهـــــا
فإنها إذا دنت من المتواضع صارت مثل التراب
و بطل كل شـــرها وكل حيلتهـــا وصنائعهـــــا .
ما هو التواضع ؟ :
و الآن بعد أن وصفنا عظم كرامة الاتضــاع عند الله و القــوة الكامنــة فيــــه ،
نظهر ما هو التواضع ، وفي أي وقت يؤهل له الإنسان ويقبله كاملاً كما هو .
و نوضح أيضاً :الفرق بين المتضع بالوجه ( أي بالظاهر )
و مـن إستحق الاتضــــاع الحقيقــــــي .
الاتضاع هو :
قوة سرية يقبلها كل القديسين الكاملين بعد إكمال كل الفضائل
و لا تعطى هذه القوة
الا للذين كملوا كل تدبير الفضيلة في ذواتهم بقوة النعمة
و على قدرة الطبع .
لذلـــــــك .أنها فضيلة جامعة لكل الفضائل ،
لهــــــــــذا ينبغي علينا أن لا نحسب أي إنسان متضعاً كيفما اتفق ،
بل الذين أهلوا لهذه الرتبة التي ذكرناها .
المتواضع :
ليس كل من هو هادئ بطبعة هادئ ،مسكين وديع مسالم
قد بلغ درجة الاتضاع ، بـــــل
المتواضع الحقيقي هو :
الذي له في نفسه شيء مخفي يستحق الارتفاع
لكنه لا يتعظم بل هو في أفكاره كالتراب و الرماد .
و لا يدعى متواضعاً الذي يذكر زلاته و خطاياه لكي يتواضع إذا ما ذكرها و ينسحق قلبه
و ينحط عن نزعات الكبرياء ،ـ وإن كان هــذا الأمــــر ممدوحــــاً جــــداـً
و لكن مازال له فكر العظمـة ولم يتقن الاتضاع بعد بل يحاول الدنو منه ،
و إن كان حسبما قلت هذا ممدوح ، لكنه ما اقتنــــاه إلي الآن بل يســـعى في طلبـــه ،
أما المتواضـــــــع على الوجه الأكمل فهو
غير المحتاج لمحاولة أن يكون في فكره أسباباً لكي يتواضع ،
بل هو قد أكمل جميـــع هـذه فاقتنــاه طبيعـــــة له يمارســــــه دون جهـــــد .
التواضـع هـــو : موهبة عظيمــة ليـس في الخليقـة كلها كفـاءة لها ،
لكن المتواضـع قد اقتنــــــــــاه طبيعــــــــــة فـــــــي داخــــــــــله ،
و يكون في عيني نفسه مثل خاطئ و حقير ومرذول ،
( لذا فرغم أنه ) عالــــــــــــــــــم بكــل أسـرار الطبـائع الروحانية
و كامل في الحكمة التي لكل الخليقة و يعرف هذا حقاً ( إلا أنه يكون ) ،
عند ذاته كمثل من لا يعرف شيئاً ،و هذا لا يكون بالتحايل بل بغير تغصب من كل قلبه .
هل يمكن أن يكون إنسان على هذا النحو ؟! أيستطيع الطبـع أن يغـــتير ذاته هكــــذا ؟!
لذا لا تشــك أنه قد نــال قــــوة ســـرية ،و هي التي كملته في جميع الفضائل بلا جهد .
هــــذه هي القــــــوة التي قبلها الرسل القديسين على شكل النار ،
و لأجـــــــل هــــــــذا أوصاهم ســـيدنا ألا يبتعــدوا عن أورشــــليم
حتى يقبلوا القوة من العلاء الذي هو البارقليط
الذي تفســيره روح العناء ( أع 1 : 4 ، 2 :3 ) ،
و هو روح الاستعلان ،هذا هــو الــذي ســطر عنـــــه في الكـــتب
إن الأســـرار تنكشــــــف للمتواضعــــــــــين ،
أعنــــــــــــي أن روح الاســـتعلان و مظهــــــــر الأســــــــــرار
يؤهـــل المتواضعــــين لأن يقبـــلوه داخلهــم .
ولأجل هذا قال أحد القديسين :
إن الاتضاع يكمل النفس بالمناظر الإلهية .
و لهذا لا يجسر أحد أن يظن من جهة نفسه
أنـــــــــه قد أدرك و وصــل إلي منزلة التواضــع في ذاتــــه
بســــبب فكر واحد يأتيه في وقــت ما على سبيل النــدم ،
أو بسبب ســــــكب عينيــــــه قليـــــلاً مـــن الدمـــــــــوع ،
أو من أجل حسنة واحدة في طباعه اقتناها بتغصب و قسر
فــــــذلك لا يظـــــــــن أنـــه :
نال ما هو جامع كل الفضائل ( أي التواضع ) بهذه وحدها ،
و أنه اقتناه بهذه الأعمال القليلة .
لكن إذا كان أحد قـــد غــــــــلب جميع الأرواح المضادة
لم يفتــــــــــــه عمل واحد مـــن جميع أعمال الفضـائل
بل من أجل كل واحد منهــا تعب و غلب وهدم كل الحصون الشامخة ،
ثم شعر بعد ذلك في نفسه بالـــروح أنه قــــد قبـــل هذه الموهبـــــة ،
لأن الروح يشهد لروحه حسب قول الرسول ( رو 8 : 16 )
فهــــذا هو منتهـــي الاتضاع ،
و طوبي لمن اقتناه لأنه في كل وقت يحتضن صدر يسوع .
و إن ســــأل إنســـــان :
ماذا أصنع ،و كيف اقتنيه و بأي وسيلة استحق أن أناله ؟
هوذا أنا اغصب نفسي ، و إذا أظن أني قد اقتنيته احس بحركات كـــبرياء مضـــــــــادة
تجــول في قلبــي ،و لهـــذا أنا واقــع في قطـــع الرجــــاء ؟ .
ومن يسأل هكذا ، نجيبه :
إنه ينبغي للتلميذ أن يكون مثل معلمه و العبد مثل سيده ( مت 10 : 25 )
فانظر الذي أمر بهذا ، و هـــو المــانح إيـــــاه كيــــف كــان له ، ثم تشــتبه أنـت بـــه ،
و انك تجده يقـــــــول : يأتـــــــــــي أركـــــــــــــــــــون ( أي رئيس )
هذا العالم و ليس له في شيء ( يو 14 : 30 )
انظــــــــــــــــــــــــر : كيف بكمال كل الفضائل يقتني الاتضـــــــــاع.
تشبه بالذي أمر به :
" إن للثعالب جحور و لطيور السماء أوكار
و ابن البشر ليس له موضع يسند رأسه "
( مت 8 : 20 )
الـــــذي لـــــــه المجـــــــد
من جميع الكاملين الذين تقدسوا و تكملوا بالأسرار ،
مع الأب مرسله و روحه القدوس ،
الآن و كل أوان و الي الأبد ،
أمين .