الفصل الخامس عشر
في نظام المحبة
يعيش في برُّ وقداسة مـــن يقدر كل شــيء حــــــــــق قـــــــدره ،
فينــــــــــظم حبــــــه كيلا يحب مالا يجوز ، ويحب ما يحــــــــب ،
فــــــــــــــــــــــــــلا يحب كثيراً ما يلــزم أن يحـــــب قليــــــــــلاً ،
ولا يحــــــــــــــب على السواء من وجب له الحب قليلاً أو كثيراً .
للحب بداية ونمو واكتمال
تأمل أولاً الحقيقة التاليــــة :
كل حـــب أو ميل في الإنســــان يعود للشخص عينه ،
وتلك هي حال الشيء الخارجي ، موضـــــوع الحب .
إن كنت تحب الذهب فـــــــــأنت تحب أولاً نفسك
وتحب الذهب حباً بنفسك ،
لأنـــــك إن مـــتَّ فــلن يبـــقي من يمــــلك الــــــــذهب .
الحب في الإنسان يبدأ في النفس وبخلاف ذلك فهو مستحيل ؛
ولا حاجــــة لأن يُحــــث الإنسان عـــــــــــــلى محبة نفســه .
باشر بأن تحبَّ شيئاً ما : وسيكون أمّا أنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــت ،
وأما ما هو أحط منك قدراً أو أسمي .
إن كنت تحب ما هو أحط منك فأحبـــــة تمتعاً بـــه وتفريجاً عنك ،
ولا تحبـــه على سبيل الارتباط بــــه .
أتحب الذهب ؟ فلا ترتبط به : كـــم أنــــت أفضــــــــــل منه !
الذهـــــــــــب تراب بــرَّاق ،
أما أنــــــــت فمخـــــــلوق على صورة الله لتستنير بنوره .
ومع أن الذهب من صنع الله ؛
فلم يصنعـــــه على صورته ،
بل صنعك أنت على صورته .
وبالنتيجـــة ، بعــــــــــد أن فضّلك على الذهب ،
وجب عليك أن تحتــــــــقر الذهب .
أتَّخــــــــــــــــذ تلك الأشــــــياء للاســــــــــــــــتعمال دون ســــــــــــــواها .
ولا ترتبط بهـــــا برباط الحــــــــــــــب كما على دبـــــــــــق .
لا تجعــــل لك أعضاء تعــــذّبك وتؤلمـــــــــــــــــــــك حين تريد أن تبترها .
تــــــــــــــنزَّه عــــن الحــــــب الذي تحـــــــــب بــــه ما هو أدني منـــــك ؛
وباشر بمحبة ما هو مساو لك ، أي ذاتــــــــــــــــك ؛ ولو شــــــــــــــــــئت لقمتَ به سريعاً .
لقد بينّ لك الربُ عينه ، في الإنجيل ، وأظهر لـــــــــك ، بوضـــــــــــــوح ، نظــاماً ،
إن أتبعتـــــــــــــــــــــه حصلت على الحـــب الحقيقي والمحبة الصحيحة حين قال :
( أن تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفســـــــك ومن كل قوتـــــــك ،
وأن تحب قريبـــــــك كنفســــــــك ) " متى 37:22 " .
عليك إذن أن تحب الله فنفســـــــك ،
ثــــــــــــــمّ قريبــــــك كنفســــــــك .
لأنك إن لم تستطع أن تحب نفسك
فكيــــــــف تحب حقـــاً قريبك ؟
يظن الكثيرون بأنهــــــــــــــــــــــــــم يحبون نفوسهم حبـــــــــاً شــــــرعياً ،
حـــــــــــــين يسلبون الناس أموالهم ويســـــــــكرون ويتعَّبدون لشهواتهم ،
ويحصّلون كسباً حراماً عن طـــــــــريق النميمـــة والخــــداع .
فعلي أولئك أن يصغوا إلـــي الكتاب المقدس القـــــــــــــــــــــائل :
( من احب الجور أبغض نفسيه ) " مزمور 6:10 ".
إن أنت أحببتَ الجور أبغضت نفســــــك ومــــــا أحببتهـــــــــــا ؛
فكيف تدّعي ، من ثــــــــــــــــمَّ ، حـــــــبّ الله والقريب !
وبالتالي إن شئت أن تــــــــــــــــــــرعي نظام المحبة الصحيحــــة فأصــــــــــــــــــــنع الــــــــــبرّ ،
وكن رحيماً وأهرب من التطرّف وأبدأ ، عملاً بوصية الرب ، بالمحبة لأصدقائك ولأعدائك .
ومتى حـــــــــاولت أن ترعاه من كل قلبك بإخلاص تمكنّت من الترقي في تلك الفضائل ،
كمــن يَرْقي على درجٍ لتستحق أن تحـــــــــــبّ الله من كل قلبــــــــــك ومن كل قـــوتك .
وبالنتيجة يبــــــــدو لي أن التحديد الموجز والصحيــــــــح للفضيلة هو : النظــام في المحبة .
ذاك ما تعلّمنا إياه الكنيسة نقلاً عن نشيد الأناشيد القــــــــتائل : ( نظّموا فيَّ المحبة ) .
خذ القياس وأعط كل ذي حق حقه ، ولا تضع تحت ما هو فوق .
أحبّ والديك إنمــا قـــــــــــــدمّ الله عـــــــلى والديك في حـبك .
تأمــــــــــــل في كلام أم المكابيين :
( يا بــــــني لقد حبلت بكم وولدتكم إنما لم أستطع أن أكونّكم
فاسمعوا الله وقدّمــــــــــــــوه علىّ ولا تتوانوا مخـــــــافة أن أبقي بدونكــــــم )
لقــــــــــــــــــــــــــــــــــــد أوصت فاتبّعوها .
تعليم الأم لبنيها هو عينــــــة تعليم السيد المسيح إلي الشاب حين قال له :
( أتبعـــــــــني ) ؛ تذكرَّ دائماً المحبـــــــــة في وصـــــــيتها :
( أحبّ إلهـــــك من كل قلبك ومــــن كــــل نفســك
ومن كل عقلك وأحب قريبك كنفسك ) " متى 37:22 " .
فكّر بهذا الكلام وتأمًّل به دوماً واحفــــــــــظه وأعمل به وكمّله .
محبـــــــــة الله هـــــي الأولي بين الوصـــايا ،
ومحبة القريب هـــــي الأولي في نظام العمل .
إن الذي أمرك بهـــــــذه المحبـــة في وصـــــــــــــيتيها ،
لم يوصـــــــك بمحبة القريب أولاً ثم بمحبة القريب أولاً ، ثم بمحبة اللــــــه ،
بل بمحبة الله أوصـــاك ثم بمحبة القريب .
أمّا أنت فلأنك لا تري الله تحب القريب الذي تراه لتؤهل لأن تحب الله الذي لا تراه ،
وإذ تحـب قريبــــــــــــك تطهّرعينيـــــــــــك لتشـــاهد الله .
وفقاً لما قاله يوحنا بوضوح :
( إن قال أحـــــــد أني أحــــب الله وهــو مبغــــضُّ لأخيــــه فهو كــــاذب
لأنَّ من لا يحب أخاه الذي يراه كيف يستطيع أن يحب الله الذي لا يراه ) "1 يوحنا 20:4 ".
أحبب قريبك وفكّر في ما يدفعك إليه تعرف إن كنت تحب الله .
ولكـــــــــن لا يجوز أن تحب الخاطئ لكونه خاطئاً
بــــــــل أن تحب الإنسان لكونه إنساناً حبـــــاً بالله ؛
أمــــــــا الله فأحبّـــــــــــــه حبـــاً بذاته .
وعليك أيضاً أن تحب الجميع على الســــــــــــــــــواء ؛
ولكـــــــــــن بما أنــــــــــــــك لا تســــــــــــــــــــتطيع أن تكـــون نافعاً للكــل ،
فمن الأفضــــــل أن تهتمّ بمن ترتبط بهم ارتبــــاطاً وثيقـــــــــــاً .
بحكـــــــــــــــــم المكـــــــان والزمــــــان وأسباب أخري مختلفة .
أقمْ درجات وأرقَ عليهــــــا ؛
وتقـــــــــدَّم كل يـــــــــــــــوم فـــــي هـــــذا الحــــــب بالصلاة وعمل الخير ،
حــــــــتى إذا ما أيـــــدك ذاك الذي أوصاك بالمحبـــــة ومنحك إيــــــــــاها ،
غذاها فيك وأنمــــــــــــــــــاها حتى يكتمــل عمله فيك .
بتلك المحبة أرضي الله آباؤنــــــا القديسون وبطــــاركتنا وأنبيــــــــــــاؤنا ورســـلنا ،
بفضــــــلها جــــــــــاهد الشهداء الحقيقيون ضد الشيطان فأراقوا دماءهم وانتصروا ،
لأن المحبـــة لم تفتر قط فيهـــــم ولا انقطعت .
بها يتقدم المؤمنون الصالحون كل يوم لأنهـــــــم لا يبتغون ملكوتاً زائـــــلاً ،
بـــــــــــــل ملكوت السماوات يطلبون .
ولا يرجون ميراثاً زمنيـــــــاً بل أبدياً .
ولا يتوقون إلي خيور عالمية
بـــــــل إلي مشـــــــــاهدة الله التي تفوق بطيبتها وعذوبتها .
كل وصــــــــــــف وتفكـــــير .
ولكن حــــــــــذار مما يظـــهر بمظهر الصــلاح
دون أن يكون له اصــــلُّ في المحبـــــــــــــــــة . للزهـــــــور أشــــواك :
بعضهــــــــــــــا يبـــــدو قاســـياً ومهـــــــــدداً
ولكن ســــــرعان مـــــا يتحـــــــــــــــــــــــــــول تحــــت تـــأثير المحبة .
بكلمة واحدة أعطيت الوصية : ( أحبَ وأعمل ما تشاء ) .
إن ســكت فعن محبة أســكت ،
وإن هتفـــت فعن محبة أهتــف ،
وإن اصلحت فعن محبة أصلح ،
وإن رحمت فعن محبة أرحـــم ،
وأجعـــل المحبة متأصلة فيك من الداخـــل ،
لئـــــــــــــــــــلا يصدر عنــك ما ليس خيراً .