الفصل الثامن
طــــــوبى للجيـــــــاع
{ طوبي للجياع والعطاش إلي البر فإنهم يشبعون }
( متى 5/6 )
أتريــد أن تشـــــــبع ؟ وكيــــــــــــــف ؟
إن كان الجســـــــــــم يشـــتهي الشـبع ،
فبعد أن تهضــــــــــم غـــــــــــــــذائك ،
سوف تشـــكو مـــن الجوع مـن جديد ،
مـــن يـــشرب مـــن هذا المـــاء ،
قــال يسوع المسيح للمرأة السامرية :
يعطــــــــــــــــش ( يوحنا 4/13 ) .
إن كان الدواء الذي يوضع على الجـــرح يشـــــفيه فلا يعــود يؤلـم ،
فالقـــــــــــوت الذي يقضي على الجــوع لا ينعــش إلاّ لزمن يســير .
أنـــــك تشــبع لزمــن يســـير ثم يعـــود إليــــــك الجــوع ،
كل يــــــــــوم يحــضر العلاج إنما جرح المرض لا يشفي .
أنت بحاجــــة إلي الشــــــــبع لأنــــــــك جائـــع وعطشـــان .
فليكـــن فيـــك جـــــــــــــــوع وعطــــــــــــــش إلي الـــــبر ،
لكــــــــــــــــي تشــــــــــــــبع مــــــــن هــــــذا الــبر عينــه ،
الـــــــــــــــذي تعـــــــــــــــــــــــــــــطش الآن وتجوع إليـه .
الإنســـان البـــاطني جائـــع وعطشـان ،
له فـــي الواقـــــــع غـــذاؤه وشــرابه .
الاعتراف بخطاياك بدايــــــة بـــــــرك .
منـــذ أن امتنعت عن الدفاع عن خطيئتـــــك ، بــــدأت تحــزن ،
ويكتمل بـــرك فيــك سـاعة لا يعـــــــــــــــود يفرحك ســـواه .
ويكتمــل برك حــــين لا تعود الشهوة تستهويك ،
ويبطـــل كــل صـراع بين اللحــــــم والـــــــــدم ،
وحـــين تنال إكليل الــــبر ،
وتتغـلب عــــلى العــــــدو ،
ويبتلـع المــوت بالغلبــة ،
إذ ذاك يصبح برك كاملاً .
أحـــــــــبَّ الــــــــــــــــــبر ،
وليكن فيك عطش إلي البر .
للإثم لذَّاتـــــه ، أو ليـــــــس للبرّ لذاتــــه أيضــــــاً ؟
الإثم يمنــــــح غبطة أثيمة ، أولا يمنح البرّ غبطةً ؟
إن الخـــــــــير يمنح فرحـاً كامـلاً ،
بيـــد أن اللــه يمنحه العذوبــــــة ،
وقلبــــــــــك يعــطي ثمرتـــــــــه .
أما إذا لم يمنــح الله أولاً عذوبته ،
فقلبك لن يحــوي سـوي العقـــم .
أطـــلب الـــبرّ يبـــدُ لك كل شـــــــــــــيء تافهــــــــــــــاً ،
إنًّ ما كنت تعده عظيماً يصبـــــــــــــــــح أمام ناظــريك ،
مليئاً بالأقذار جديراً بكل احتقــار .
أحـبَّ الـبر لكـــــــــــــي تجــد درجــــات مــــــــن يحـرزون تقدمــاً ،
عليــــــــك في بدء الأمر إن لا تؤثر شيئاً مما تحب على محبة البر :
تــــــــلك هي الــــــــــــــــــدرجة الأولي .
ليــــــــــــــــزد فرحـــــــــك بالــــبر ،
لا لأن البـــاقي لا يهمــــــك أمــــره ، بل لأنك تؤثـــر الـــــــبر عليـــــــــه ،
في الواقــــع ، نري بعض الأشياء تلبي طبيعيـــــات رغبـــات ضعفــــــــك ،
كالتوت والشــــراب اللذين يلتذ بهمـــا الجائـــع والعطشـان ،
وكنــور الســــــماء الـــــــذي يبهجـــك لدي طلـوع الشـمس .
وتفـــــــــرح بالصـوت الشـــــجي والأغــاني العــــذبة والروائح العطــرية ،
ويرتـاح فيك حـــــس اللمــــــــس إلي كل ما له عـلاقة بلــــــــذة اللحــــــم .
بين هذه الأشياء كلها التي تلذ لحواسك الجسدية منها ما هو مقبــــول ،
الأعــــــــين تشــــعر بارتياح شـرعي أمام مشـــــاهد الطبيعة الكـبرى ،
ولكنهــا تسرّ أيضاً بالمشاهد المسرحية :
هـــــــذه محظـــــــــــــــورة عليــــــــك ،
وتــــــلك مقبــــــــــــــــــــــــــــــــــــولة ،
تسر الآن بســماع مزمور ديني عذب الإنشـــــــاد ،
ولكنهـــا تســــــرّ أيضـــاً بأغــــاني المهــــرجين :
سرورها بالأول مقبول وبالثاني محظـــور .
الشــــــم يلتـــذ بشـــذا الزهـــور والطيوب ،
ولكـــــن رائحة البخور فوق هيكل الأبالسة ،
لذيذة أيضاً .
اللذة الأولي مقبــــــــولة ،
والثــــــانية ممنــــــوعة ؛
أن الأطعمة التي يســمح بهــــا يستسيغها الـذوق ،
ولكنـــــــه يستسيغ أيضاً موائد الذبائح المحرمة :
يسمح بذاك دون الثاني .
أعــــترف بوجـــود ملـــذات مقبـــــولة ،
وأخـــري ممنوعة على حواس الجسـد .
أجعل البر يلذ لك ،
حتى تتغلب على الملذات المسموح بهــا ،
عليـــك أن تؤثر البر على اللذة الشرعية .
فضــــــل اللذة العقليـــة ،
عــــــلى اللذة الجسدية :
الملذات المحرمة يفرح بهـــا جســدك ،
أما الــــبر العذب فيغتبط بــه عقـــــلك ،
بما فيه من خيرات لا منظورة جميلة نقية مقدسة ومتناسقة ،
لكــــــــــي لا تضطـــر إلي الذهـاب إليهـا بدافــع من الخوف .
إن إندفعـــت إليهــــــــــا ، عن خوف ، فلسـت تجـد فيها غبطتك ،
عليك أن تمتنع عن الإثم ، لا خـــوفاً من العقــــاب ،
بل حبـــاً بالــــــــــــــبر .
أجبني :
حين كنت تخطأ وتستلذ أخطاءك بدافع من الخوف ،
أم من اللذة كنت تخطأ ؟
ستجيب : بدافع من اللذة .
وهل تدفع اللــــذة إلي الخطيئـــــــــــــــة ،
والخوف يقود حتماً إلي الــبر ؟؟
قـــــــارن بـــــين الــــبر والإثم ؛
وهـــــــل مـن شـــــبه بينهمـا ؟
أيُحـــــبُ هذا كما يُحـــب ذاك ؟
حاشـــــا أن يكون المال هكذا ؛
ومع ذلك فليكن القياس ذاته .
اتبعـــــــــــــتَ فـــــي الإثــــم اللــــذة ،
فأحتمــل الألم فـــــي ســـبيل الــــبر ،
وهــــــــــــذا أهـــــم .
قليل عليك أن :
تنبذ ما كنت تجـــــد فيه غبطتـــــك :
أحتقر ما كان يخيفك كالســـــجون ، والوثاقات ،
والعذابـــــات ، والمـــوت .
مــتى تغلبت على هذه كلها وجدت الــــــــبر .
أظهر ذاتك في الحـــالتين صديقــاً للـــــــبر .
إن شئت الحصول على شيء ما ،
عشــــــت في حـــــرارة هــــذا الشــوق ،
و هــــذا الشــوق هو
عطش النفس بالذات .
يتحرق الناس شوقاً ونكاد ،
لا نجد بينهم مـــن يقـــول : نفسي عطشى إلي البر .
النــــــــــــاس هـــــــم عطـــــــــاش إلي العلم ولا يدرون بأنهم :
في صحـراء تعطــش نفسهم فيهـــا إلي الله .
أما أنــــت فليكـــن فيــــك عطــش إلي الحكمــة والـــــــــــــبر ،
لـــــــــن تشــــبع مـــــن الحكمــــة ،
وتمتــــلئ مـــــن الــــــــبر ،
قبــل أن تنتهــــي حياتك هــــــــذه ، وتبلغ حيث وعـــدك الله .
لقد وعدك بالمساواة مع الملائكة :
الملائكـــة في الوقــــت الحاضــر لا يعطشــون ، ولا يجوعون نظيرك ،
بل يملكــــون ، وفــــــــــرة الحــــق ،
والنـــــــــور ، والحكمـــــة الخــالدة .
هم ســـعداء لأنهــــــم فــي تــــــــــــــلك المدينة أورشـــليم السـماوية ،
وسـعادتهم هي عظيمـــــة جـــــــــداً في المدينة التي تسير إليها الآن ،
وإذ يعتبرونك في منـــــــفي .
يشفقون عليك ويمـــــدون لك يـــــد المســــــاعدة بأمر من الله ،
لكــــــــــــــــي تعــــود يومــــاً إلي ذلك الوطــــــن المشــــــترك ،
حيــــــــــــــث ترتـوي وإيـاهم من ينبـــوع الحـق و أزليـــة الله .