الفصل السابع عشر
في محبة الذات الصحيحة
لا يســـعك أن تحب نفســك حبـــاً خلاصيـــــاً ،
إلا إن كنت تحـــــــــــب الله أكـثر من نفسـك .
وكيــــــف يحب الإنسان الله أكثر من نفسه ؟
اســـــــــمع الكلام الذي كان يقبله الشهداء ويتلقفونه بشـــــوق ،
ويستسلمون إليه بكل نياط قلوبهم فيصبــح جزءاً من كيـــانهم :
( مــــــــــن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ، أجل ، فليكفر بنفسه
ويحمـــــــــــــــل صليبــه ويتبعـــــــــــني )
" متى24:16 ".
وكيف يكفر بنفسه من يحبهـــا ؟ أنه لسؤال معقــــــــول ؛
ولكن ، بنــظر النـــــــــــــــاس ؛ يقول الإنسان للإنسان :
كيـــف يكفر بنفسه منه يحبها ؟
أمّا الله فيقول للإنسان :
" كل من يكفرُ بنفسه يحبها
ومن يحــب نفسه يهلكهـــــا
ومن يكفر بنفسه يجدهـــــا "
( يو 25:13 ) .
لقد أمَرَ من عرف كيف يأمر ،
ويرشد ويثقّــــف ويجـــــدّد ،
ذاك الذي تنـــازل وخلـــــق .
من المؤسف :
أن يخســـر الإنســـان ما يحــــــب ؛
بيد أن الــــزارع يخسر ما يــــزرع ،
فيخرج الحب و يبذره ويتخلّى عنه ،
ويُطمر في التراب .
ولمَ تتعجب ؟
المبذَّر المحتقر يصبح حصاداً بخيلاً .
وينقضي الشــــتاء ويقبــــل الصيف ،
ويكون لك من الــــــــزارع رايــــــة ،
و من الحصـــــاد غبطتُـــه .
فمن أحـــبَّ نفسها فليهلكهــــــــا ؛
وإن سألت نفسك ثمرة فأزرعها .
ذاك ما تعنيــه عبـــارة ( أكفر بنفسك ) ،
كي لا تخسرها أن أحببتها حباً مضـاداً .
أطلب في الحب ما هو حق ،
وأحـــــــــذر ممَّا هو شر ؛
فإنك إن أحببت الإثم :
تخلَّيــــت عن الله ،
وإن تخلَّيــــت عن الله حبـــــــــــــــاً بنفسـك ،
تخلَّيــــت عن الله ، وما ثبَّت في نفســك ،
وخرجــتَ مـــــــن نفســـــــــك ،
بعيداً جداً عــــــن قلبـــــــــــك ،
باحتقارك ما هـــو باطنــــــــي ،
وتعلّقــك ما هــــو خارجــــــي .
أين أنت أيها المحب لنفسه ؟ في الخارج .
هل أنت المال الذي تحب ؟
أنت تخلَّيت عن اللــه حباً بنفسك ؛
لقد تخلَّيت عن نفسك حباً بالمال .
تخلَّيـــــت عن نفسـك ثم هلكــت .
هــــات مـــــــيزان الحــــــق و دع ميزان الشهوة ؛
وضعْ نفسك في إحدى كفتيه و في الأخـــرى المال .
وها أنــــــت تزن بأصابع الغــــش ،
التي للشهوة لكي ترجح كفّة المال .
توقف ولا تزن :
أنــــت تريد أن تغـــش نفسك ،
وأنـــا أري ما تفعـــــــــــــــل .
توقَّف وأترك الميزان لله :
أنـــه لا يغــــــــــــــــــش ،
ولا يُغــــــــــــــــش .
هوذا الله يزن :
أصغ إليه محذراً قائلاً :
" ماذا يفيدك لو ربحت العالم كله ؟ "
( متى 26:16 ) .
أنه الصوت الإلــــــــــــــــــــــهي ،
صوت القاضي الذي لا يغش ،
صوت من ينبّــــه ويحـــــذّر .
كنتَ تضع المال في كفّـــــــة ؛ والنفـــــس في كفّـة أخــــــرى ؛
فأنــــــظر أين وضعت المال ؟ وبمــــــــــا يجــــيب الــــوزان ؟
لقــــــــد وضـــــــــعت الله . وماذا ينفعك لو ربحت العالم كله ،
و خسرت نفســـــك ؟
أردت أن تزن نفسك بالمال فزنها مع العالم :
وأردت أن تهلك كسباً للأرض
بيــــد أن نفسك تزن أكثر من السماء والأرض .
أنت تتصرف بهذا الشكل :
لأنك حين تتخلّي عن الله حبــــاً بنفسـك ،
تخرج من نفســــــك وتزداد اعتباراً لما هو خارجي .
عـــــــــــدْ إلي نفسك وتطلــــع من جديـــد إلي فــوق ؛
حين تعود إلي نفسك فلا تمكث في نفسك .
عـــدْ أولاً إلي نفسك مما هو خارج عنها ،
ثم ســـلمَ نفسك إلي خالقــــك ،
الذي بحث عنك ضائعــــــــــــاً ،
و وجـدك ضـــــــــــــــــــــالاً ،
و ردّك إليه كافـــــــــراً به .
إذن عدْ إلي نفسك وكمّل سيرك إلي خالقك .
اقتد بذاك الابن الأصغر الشاطر ـ وقد تكـــــــــون مثــــــــــــــــله ـ
الــــــــذي انغمس في اللـــــذة وافتقر في الملاهي وبذّر مواهبه ؛
ولمَّــــــــا أصــــــــبح فقـــــيراً راح يرعـــــى الخنـــــازير ؛
وإذا تـــألم من هـــذه الحـــــالة تذكرّ أصله فقال في نفسه :
" رجع إلى نفسه و قال :
كم من أجير لأبي يفضل عنه الخــبز
و أنا اهــــــــــلك جـــــــــــــــــــوع
أقوم و اذهــب إلى أبي و أقـــول له :
يا أبي أخطأت إلى السماء و قدامك .
و لست مستحقا بعد ان ادعى لك ابنا
اجعلني كأحد أجراك "
( لوقا 17:15 ) .
ثم عاد إلي نفسه :
وإن كان قد عاد إلي نفسه فلأنه خرج منهـــــــــــا ؛
ولأنه خرج من نفســـــــه بزلة منه ،
فقد عاد إلي نفسه أولاً ليعود إلي من قد ابتعد عنه بزلّة منه.
وبما أنـــــــــه حـــــين ســــــقط بزلّــــــــــــــــة منه ،
بقي مصـــراً عـــــلى فكــــــرة له شــــــــــــــــريرة ،
بقي مصـــراً عـــــلى فكــــــرة له شــــــــــــــــريرة ،
هكـــــــــــــذا حـــــين عــــــاد من جديـــد إليّ نفسه ،
وجب عليه ألا يبقي فيّ نفسه كيلا يسقط من جديد ؛
حين عــــاد إلي نفسه قـــــــال كيلا يبــقي في نفسه :
( أقوم وأذهب إلي أبي ) أبتعد عن نفسه
فأبتعد عن أبيه ؛
وسـقط إلي مــا هـــــو خارجــــــي فخـرج من نفسه .
وعـــاد إلي نفســــــه
وجــاء إلي أبيــــــــه
فوجد لديه الطمأنينة .
إن كـــــــــــــــــان قد ابتعــــــــــــــــــــد عن أبيه ،
بخــــــــــــــروجه من نفسه ،
فبعودته إلي نفسه قد كفر بنفسه ليذهب إلي أبيه .
كفر بنفسه حين قال :
خطئت في الســـــــماء و قدامـــــــــــك ،
ولذلك فأنا لستُ أهلاً لأن أدعي لك ابناً...
ذاك ما عمله القديسون :
لقد كفروا بالخيـــور الخارجية ،
والمغريات العالميـــة ،
والأضــــــــــــــــــــاليل و المخـــــــــاوف .
وبكل ما يروقهـــــــــــم و يخيفهــــــــــــم ؛
لقد كفروا بهـــــــــــذه كلهـــــــا و داســــــــــــوها ،
وأتوا إلي نفوسهم
وتأملوها فعرفوها
ولم يرضـــوا بها :
أسرعوا إلي الخالق فتجـــددوا فيـــه بالحيــــــــاة ؛
وفيه ثبتوا ليهلك في نفوسهم ،
ما قد باشــــــروا به ،
وينمو الخير الذي زرعـــــــه في نفوسهم .
ذاك هو الكفر بالذات
وتلك هي محبة الذات بحسب البر .
وعليه فأكفر بنفسك ولا تحي بهـــــــــــــــــــــــــا ؛
ولا تعمل مشـــــــــــــــــيئتك ،
بل أعمل مشيئة الساكن فيك .