الكتاب الثالث
الفصل الأول
في طبيعة الشريعة والنعمة
إرادة الله شريعته ؛ يستشيرُها كلّ عقـــــــل تقــي ،
ليعمــل بموجــب ما يجد فيها من أمـــــــر و نهي ،
وفقـــاً لمــــــــــا ترســــــــــــــمه الحقيقة الأزلية .
لقد أعطيت الشريعة أيهـــــــا الإنســــــــــــان :
لكـــــــــــــــــي تعـــــرف ذاتــــــــــــــــك ؛
لا لكـــــــــــــــــي تشـــــفي من مرضـــــك ،
بل ، لكـــــــــــــــــي تسعي باحثاً عن الطبيب ،
إذا تفاقـــــــــم داء المخــــــــــــــــالفات .
لقد قال طبيبك :
( إن الأصحاء لا يحتاجون إلي طبيب بل المرضي )
" متى 12:9 "
أيها المتكبّر : إن لم تعـترف بخـــالقك ، أنكـــــــــرتَ صـــــــــــــــــــانعك ؛
و إن أنكـرتَ مرضـــك ، اعـــتبرت أن لا لـــزوم للطبيـــب .
سبحّ الخالق بطبيعتك ، و أطلب الربًّ لضـــعف أنزلته به .
تافه هـــــو البـــــــــــــــحث عــن الرب من أجل شــــــريعته ،
لو أعطيت الشريعة المحيية لانبثق عنهــــا البر دون سواها .
الشـــريعة عـــون أعطيتــه ، لئـــلا تظــــن نفســك ســـليماً .
بحريتــــك جرحت نفســــك أمّا و قد صـرت جريحاً وضعيفـاً ،
فـــــلن تتوصـــل إلي أن تشــــفي نفسـك بحريتك .
بيــد أنك ، يوم تبــدأ تحيــــــا حيـــــاة إفـــــراط ، لا اعتدال فيها ،
تصـــــاب بمــــرض و لــن تتخـــلَّـص من مرضـــــك ،
إذا استخدمت الطريقة عينها التي رَمَتْ بك في المــرض .
الطبيــــــــــــــــب يوصــي ســـليم الجســم بالاعتــدال .
و الطبيب الصالح يشــــير إلـــــي ذلـــــك ،
و يــــــــــــــــأبى أن يكون وجوده ضرورياً للمـريض .
و هكـــــــــــــــــذا
فقــــــــــــــــــــــــد أوصي الربّ الإله بالاعتــــــدال :
الإنسان المخــلوق منزهـــــــاً عـــن كل عــــــــــيب .
و لـــــو انـــــــــه عمــــــــــــــــــــل بموجب وصيته ،
لمـــــا أحتـــــــاج إلـــــــــــــــــــــي طبيـــب يعالجــه .
و لكــــــن بمــا أنه لم يعمـل بموجبهــا فقـــــــــــــــد أعتـلَّ و سـقط ؛
و بعــــــــــــــــد أن أصبــــح مريضـــاً راح ينجــــب أناساً مرضـــي ؛
لكـــــــــن الله لم يشــــأ أن يتخلَّى للمــوت الأبدي عــــن الجنس البشري .
الذي شجب بعدل فأرسل الطبيب الــربّ الــــذي يشفي مجـــاناً ،
و هو يعتبر الشفاء مجاناً ، شيئاً بسيطاً ،
طالما أنه يكافئ من يعيــد إليهم الصحة .
و هــل من مزيد عــــــلى هــــــــذه المحبـــــــة ؟
ومــــن ذا الذي يقـــول : ( أشــفيك و أكافئــك ) ؟
نبيـــــلُّ هــــو هذا العمل لأنه عالم ، و هو الغني ،
بأنـــه آت إلي الفقير ليشــــــــــفي المرضـــــى ،
و يعطيهم ذاته دون سـواها .
المخلص عونُّ للمريضُّ و اجر للذي يشفيه ،
أستعمل الشــــريعة اســــتعمالاً شـــــــرعياً ،
أي اعـــرف بواســــــــــــطتها علّتــــــــــك ،
و أطـــلب مســــــــاعدة الله لتُشـــــــــفيّ .
الشــــريعة لا تحيي ،
ولو أحيت الشــريعة لصـدر البرّ كل الـبرّ عن الشريعة ،
و لما طلبْ المخلص و جـــــــــــــــــــــاء المســــــــيح ،
و افتـــدي بدمـــــه النعجــة الضالة .
كانت الشريعة مرشـــــــداً لنــــــا إلي المســـــــــيح يســـــــــــوع ،
و المرشد لا يحتفظ بالـــولد بل يرســــــله إلي الأســــــــــتاذ ،
وحـــــين يتثقـــــف الـــــولد ويكبر يخرج عن طاعة المربيّ .
دخــلت الشــــريعة كل شيء فتكــــاثر الإثــــم ،
ولكن : ( حيث يكثر الإثم تكثر النعمة أيضاً )
" رومية20:5 "
احتقـــــرت مساعدة الطبيب حـــــين كان مرضك بسيطاً ؛
و لكــــــن ؛ لمّـــــــا تفاقــــم مرضك اســــــــــــــتدعيته .
وضعتَ الشريعة : لتحــــــــــــدّ مـــــــــــن المخالفـــات ،
و تُــــــــــــــذلّ عنفــوان المتكــــبرين ،
المعتمدين على قواهم .
وكأني بهم يظنون إنهـم يســــــــــــتطيعون أن يقـــــــــــاموا الشريعة بحريتهم ؛
بيـــــــد أن الإنسان الذي تمتّع بملء حريته في الفــــــردوس الأرضـــــــــــــــي ،
كــــــــــــان قــــــــادراً عـــــــلى أن يســـــــــقط أو لا ينهــــــــــــض .
كنت على الأرض ملقيً :
ولولا ســـقوطك هـــــــــــــذا لما أحتجـت إلي وســــــيط .
لقـــد إنطرحت عــلى الأرض فعجـــزتَ على النهوض ،
و لن تقـــــــوم إلاّ إذا مــدّ الله إليـك يـده و ســـــــــيطاً .
لا تقل :
بمــــا أنـــي لستُ تحت الشــريعة بل تحــــت النعمـــة ،
يمكننـــــــي أن أخطــــــــــــــــــــــأ و أعمــل ما أريــد .
إن قلت هـذا ، لزمــــــتَ المــــرضَ و ما طلبتَ العافية :
النعمة علاج . إذا شـــــــــــــــئت أن تظــلّ مريضــــاً أنكـــــــــــــــــــــرت فضـل الدواء ؛
ولكن حـــين تأخـــذ العــــــــــــون من اللــــــــــــــــه ، هذه الهبة العلوية ، من يد الـرب ،
و تأتـي بمساعدة الـــروح القــــــدس ، خـــــــــــيراً ؛
فلا تســــتكبر لجهــــد تأتيـــه وعمــل تقــــــــوم بــــــــــه ،
إن عملك هذا لن يكون صالحاً إلا إذا استسلمت إلي الخير ،
لأن روح الله ، عــــــــــــونك ، هـو الذي يعمــــل فيـــــــــك .
لقـــد فرض عليك اسم عونك ذاتـــه ،
أيهـا العامــــــــل بعـــض الشـــيء .
أقـــرّ بما تطــلب
وأقرّ بما تعترف حــــــين تقـــــول :
( كن عــــــوني و لا تتخـل عـني )
" مزمور 9:26 "
أنــــــت تدعــــــــو الله لكي يســــاعدك ؛
ولا ينال أحد مساعدة إذا لم يعمل شيئاً .
و نحــــــن نعـــــــــلم ، يقـــــول القديـــس بولس :
( إن الذين يحبون الله ، كل شيء يعاونهم للخير )
" رومية28:8 "
إن كنت أنت تعمل فالله لا يعمل فيك .
إياك أن تقول :
إذا حـــــــــرمني الله عونه ومساعدته فلا تتأــثر نفســـي بشيء مــن جــرّاء ذلـــــك ،
و هي قـــادرة على أن تقـــــــــــــــوم بالأعمال ذاتها بشيء من الصعوبة و الضيق :
( السفر على شراع أسهل من الســـفر على مقـــــــــــــــــــذاف والتقدم فيه مضمون ) .
و الســـــفر على ظــــهر حصــــــان ، أســـــــرع منه مشـــياً على الأقــــــــــدام ،
و مــع ذلك فالوصــــــــــــــــــــــــــول مضمــــــــــون للمشــــــاة أيضـــــــــــــاً ،
إنما ليست هي حالنــــــــــــــــــــــــــا من مساعدة الله و المسيح و الروح القدس .
لـــو فاتتـــــــــــك مساعدة الله لمــا اســــــــتطعت حقـــــــاً أن تقــوم بأي عمـل صـــالح .
أنك لتعمل أحياناً ، بمعـــــــزل عنه ، حسب إرادتك الخيرةّ ، و لكنـــك تعمل ســـــــــوءاً ؛
لأن إرادتـــــــك الحـــــــــــــرة كما سُـــــمّيت لا يســــــعها إلاّ أن تعمل الســــــــوء ؛
ومتى عملتـــه أصبحت خادمة واســــتحقت الشـــــــــجُب .
أمــــــــا المعـــلّم الحقيــقي الذي لا يتملَّق ولا يخدع أحداً فلا يقـــول لك :
ومع أنه يسعك أن تعمــــل شيئاً بدوني فمن الأسهل عليك أن تعمل معي ؛
أنه لا يقول لك :
بــــــدوني تحمل بعض الثمر، ومعي تحمل أكــــــــــــثر .
أجــــــــل أنه لا يقول لك ذلك . بــــل أسـمع ما يقـــــول :
" بدوني لا تســـــتطيعون أن تعملوا شــــــــــــــــــــيئاً "
( يوحنا 5:15 ) .
أضـــــــفْ روح الشـــــــريعة إلـــــي حرفهـــــــــــــــا :
إن إتخذتَ الحرف دون الروح فلستَ تعمـــــل شـــــيئاً ،
بــــــــــــل تجاوزت الشــريعة لأن الشـــــــــــــــريعة تأمر ولا تنفّذ ،
والجسـد يقــــــــــاوم بضراوة حيث لا وجــــود للنعمة .
ســــألتُ الروح أن يسـاعدنا على تنفيــذ أوامــــره .
لا يســـــعك أن تعذر جهلك لكونك اتخذت الشريعة .
لقــــــــــد تعلمـــــت ما يجــــــــب أن تصنـــــــــــــــــــــع ،
و لــــــــذا فالجــهـل لا يعــذرك ، إن لم يســـاعدك الــروح هلكـــــــــــت .
سلَ الروح أن يكون لك عـــوناً ، و يلهمك أن تتم أمر الله بفرح وسرور .
ولكن لا تخفْ : إن لـــــــــم تحفــــــــظ الشريعة كاملة فافزع الى الرحمـة .
و اذا صعب عـليك حفظ الشـــــــــريعة فأســتعمل الصلوات ،
الــــــــــتي وضعهــا لك المشــــــــترع الســــــــــــــــماوي .
صلّ بحرارة لتتمكَّـــــــــن من حفظهـــــــا ،
و ســـــــوف تبلغ مرامك إذا ســــــــألت الله عـــــــــــــــــــــــــونه ،
و لا تستبق مساعدة الله كما فعـــل بطرس معتــداً بقــــــــــــــواه ،
بل الحقْ بها وواظـــبْ على الصـــــــــلاة نظير بطرس في توبته .
أطلبْ بطرس ، المعتمد على قواه ، تجد بطرس الخــــــــائن ،
و أطلب بطرس ، المعتمد على الله ، تجد بطرس المبشر بالله .
ارتعــد الضــــــــــعف فــــــــي ســـــــــــاعته ،
لا لكي يُهلك التقـــوى بل لكي ينهزم الغرور .
ملأه الله مـــــــن روحـــــــه وصـــيرَّ المغرورالــــذي قــال له :
(سوف تنكرنى ثلاث مرات) حـــاملاً لــــواءه بشـــــــــــجاعة ،
أغترَّ بقوي ليســــت من الله بـــــل بالـــــــتي من نسيج حريته .
ونظر الــــــرب إليـــــــــــــه فبـــــــــــــــــكي بكـــاء مــــــــراً .
مـــــــرُّ هـــــو تذكرّ الخيانة ،
وعذبة هـــــي نعمة الفـــداء .
لـــو لم يــــــترك بطرس وحيداً لما أنكــــر ،
ولو لم ينظر إليه يســــــــــوع لما بكــــي .
وأخيراً بعـــد أن قــــــام الرب من الموت ،
ســـلًّم نعاجه إلي بطــــــــرس الخـــــائن .
لقــــــد أغـــتَّر فأنكـــــــــــــر ،
وأحبَّ فأصـبح راعياً .
لا تعتدَّ بقواك ، الله يدعـــوك ويأمـــرك بأن تطيـع ،
وهــو عينـه يعطيك القـــوة لأن تطيـع و تعمـــل .
عليك أن تتسلخ بالإيمان :
حتى تتواضــــــع متى أقبلـت النعمـة ،
وتتوســل إلي اللـه ولا تغـترّ بنفسـك ،
فتنـــــــــزع عنـــــك الإنســــــان العتيق و تلبــس الجديد .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
|