الفصل الرابع عشر
في الصبر
إن الصبر الحقيقي الــــــذي يســتحق اســـــــــم الفضيلة
هــو الذي يجعلنـا نتحمـل الأذى بهـدوء
خوفاً من أن نخـــسر بالإثــــم الخيرات
التي بها نبلغ إلي ما هو اسمي منهــــا .
وفاقد الصبر الـــــــــــــــــذي يرفـــــــــــــــــــــض أن يتحمل الضــــــيق ،
لا ينجيـــــه عدم صبره من الضيقات التي تحلّ به بل يزيدها وطأة عليه .
أما الصبور فيقبل ما به من ضيق ليخفف بصبره من شدة الوطأة عليه ؛
وإذ يتحمله بأنـــــــــاة يتحـــــاشى ما قد توقعـــه فيه قــلة صــــــــــبره .
وطالما أنه لا يهرب مــن آلام هذا الزمـــــان القصيرة المدى ،
فلا يفقــد الخيــــور الأبديــــــــــة العظيمــــــــــــة ؛
{ لأن آلام هذا الدهر لا تقاس بالمجد المزمع أن يتجلى فينا } ( رو 8 : 18 )
تأمل كم يتحمـــل النــــاس من أتعاب وآلام ســـعياً وراء خيور يحبونها محبة غير نقية ؛
ومتى ظنوا نفوسهم أكثر سعادة بها ، طلبوها بشكل لا يجــــــــلب لهـــم الراحــــة .
وكم يتحملون من آلام ، صــــــــــــابرين ، ســـعياً وراء ثروات كاذبة وأمجــاد باطـــــلة
وإشباعاً لشــــــــــــــهوات قبيحـــــــــــــــــــة .
وفي هــــذه الأمــــور ، غريب هو الصبر، أكــــثر ممــــــــــــــا هـــو ممـــــــــــــــدوح .
و بالأحرى فإن ما ليـــــس شـــــيئاً لا يستحق مديحاً ولا اعجاباً ؛
لأنه لم يعـــــــد صـــبراً بل شعوراً يبعث على الذهول .
الصـــــبر هـــــو جلــــيس الحكمة وليــــــس خــــــــادم الشهوة .
الصـــــبر صديق الضمير الصالح وليــــــس عــــــــــدو البراءة .
ومتى رأيت إنساناً يتحمل ، بصبر ، ألماً ما ، فلا تمتدح الصبر الذي ظهر نتيجة العلة التي خلقته .
ومتى كانت العلة صالحة كان الصبر حقيقياً ومتى كــان خالياً من الجشــــــع كــــــان صــــــادقاً .
أما إذا كــان فـــــــــــــي الجريمــــــــــــــــة فمــا أســــــهل انخــــــــــداع الإنســــان باســــــــــمه .
وكما أن الجميع من يعرفون لا يشتركون بالمعرفة كــــذلك فليس جميــــع المتألمين مشتركين بالصبر ،
إنمـــــا الذيـــن يمارسون الصبر باســـتقامة ، فــي عذابهم ،
فهؤلاء يمدحون على صــــــبرهم الحقيقـــــــــــــي ويكافأون مــن أجــــــل استحقــــــــــاقهم.
إن كانت النفس تتحمل الكثير بلوغاً إلي ما يهلكها فأي شيء لا تتحمـــــله هرباً من الهلاك ؟؟
لقد علمنا السيد الصبر الحقيـــقي من خلال جواب رب العائلة إلي خدامه
الذيــــــن تأثروا من رؤية الزوان مع القمح وأرادوا أن يجمعـــــــــــــوه
( أتركوهما ينموا جنباً إلي جـــنب حـــــــتى زمن الحصـــــــــــــــــــــاد ).
(متى 13 : 30 )
يجب علينا أن نتحمل بصبر ما لا يجوز انتزاعة حالاً وسريعاً .
ولقد أعطي هو نفسه مثلاً في هذا الصبر حين تحمل ، قبيل آلامه ، التلميذ الخائن يوضاس
من قبــــل أن يكتشفه خائنــــــــــــــــــــاً وقبل تجربه الوثاقــــــــات والصــــــليب والموت
لم يرفض قبـــــــــــلة السلام الغاشـــــة مـن شفتيه الماكــــــــــــــــــــــــــرتين .
أصغ في الكتب المقدسة إلي وصايا في الصبر:
( يا بنـــــي إن أقبـــــــــــــلت لخدمة الرب الإلـــه
فاثبت على البر و التقوى و اعدد نفسك للتجربة .
ارشد قلبك و احتمل لكي تنمـــــو حياتك في النهــــــــــــــــــاية .
مهمــا نابك فاقبله و كن صــــــــــــــابرا على ظروف اتضاعك .
فان الذهـــــــــــــــــــــــــب يمحــص في النـــــــــــــــــار
و المرضيين من الناس يمحصون في آتون الاتضاع ) . (بن سيراخ 2: 1-5)
( يا ابني لا تحتقر تأديب الرب ولا تكره توبيخـــــه
لان الذي يحبه الرب يؤدبــــه و كأب بإبن يسر به ) " أمثال3: 11-12 " .
وأنه لعدل لنا ، نحن الذين حرمنا من سعادة الفردوس الأولى بسبب خطايانا وأميالنا الشهوانية الوقحة ،
أن نعــــــــود إليــــــــــه بفضل صبرنا على الشدائد وتواضــــــعنا .
نعمل الـــــشر فنهرب ونحتمل الضيق فنعــــــــــــــود ؛
فــــــي ذاك نقاوم البر وفي هذا نصبر في سبيل البر .
علينا أن نبحث عن مصدر الصبر الحقيقي الذي يدعي بحق فضيلة
بعض الناس يعزونــــــــه إلي قوي الإرادة البشرية ؛
لا تلك التــــي يحــــــــــوزونها بفضــــل المساعدة الإلهيـــــــــــــة ،
بل التي هي من تفكير حر.
أنه لضـــلال فظيــــع أن يقال عن الصبر ما قاله يعقوب الرسول في الحكمة .
( ليست هذه الحكمة نازلة من فـــــــوق بل هي أرضية ، حيوانية ، شيطانية ) . " يعقوب 15:3 "
ولمَ لا نجد صبراً كاذباً لدي المتكبرين كما هي حالهم في الحكمـــة الكاذبة ؟
الحكمة الحقة تصدرعمّن يأتينا منه الصبر الصحيح .
إن صبر الأتقيـــــــــاء نازل مــــــــن فـــــوق ، مـــــــــــن عنـــــــد أبي الأنـــــــوار ؛
صبرُ الأثمــــه أرضي وصبر الأتقياء سماوي هذا صـــــبر روحاني وذاك حيــواني ؛
هذا شــــــــــــــيطاني وذاك إلهــــــي ) .
إن الشــــــهوة التي تجعل الخطاة يتحملّون كل شيء بقــــوة هي شـــهوة عالميـــة ؛
بخلاف المحبة التي هي من الله وبها يتحمل كل شيء بجرأة الذين يحيون حياة بارة .
ولذا فإن الإرادة البشرية تكفي للصبر الكاذب بمعزل عن مســــــــاعدة اللــــــــه
وكلما قســــــــــــــــــــت كلما ازدادت جشعاً . وكلما زادت شراً كلما زادت عطلاً .
ولا تكفي الإرادة البشرية لهـــذا الصــــــــبر الــــــــــــــذي هـــــــو حقيــــــــقي ،
ما لم تمتد إليهـــــــــا مسـاعدة من عل وتضرمها ؛ لأن الروح القدس هو نار لها ؛
فإن لم تشتعل بهــــا الإرادة البــــــــــــــــــشرية أحـــبت الخير الــــذي لا ألم فيه ،
وعجزت عن احتمال الشدة التي تــــــلم بهــــا فجــــــــــــأة .
لا صبر حقيــــــــــقي من دون محبـــــــــــة الله في الصــــالحين تحتمل كل شيء ،
كالشـــــــهوة العــــــالمية في الأشـــــــــــــــــــــــــــــــــرار .
إن من يعطينا المحبة هو عينه يهبنـــا الصـــبر.
أما الشهوة العالمية فحين تحتمل أثقال كل محنة تفاخر بقـــــــوى الإرادة الخـــــــــــــــــــــاصة ،
كما تفاخر بلا شعور المرضى دون سلامة الصحه .
أنــــه لمجـــــــــــد أحمـــــــــق ،
وليس مجداً للصبر بل للحماقة .
وكلما صـــبرت الإرادة على الآلام القاســـية
كلمــا ظهرت أكثر توقاً إلي الخيرات الزمنية
لأنها خاليــــــــــة من الأزليــــــــــــــــــــات .
وعليـــه ،
فلا يجوز أن يخامرنا أدني شك بأن محبة من يحبون بقداســـة ،
وصـــبر منَ يحتملون بتقوى ،
