الفصل الثامن
في الحياة الرهبانية
( ما أطـــــــــيب و ما ألــــــــــــــــــــذ أن يسكن الأخوة معاً )
( مزمور 1:132 ) .
ما أطيب المحبة التي تجعــــل الأخـــوة يســـــكنون معـــــاً .
بعــض الكامـــــــــلين يســـــكنون معــــاً :
لأن هذه البركة ليست خاصة بجميـــــع المســـــــــــيحيين
و لكـــــــــــن ، ببعض منهم ، ثم تنحدر إلي ســـــــــواهم .
مــــــــــــــــن عبــــــارة المزمـــــــــــــــور العــذبة و الشجية ولُدت الأديــــــار .
وهي التــــــي جعلت الأخوة يســــكنون معاً فكــانت بمثابة صوت نفير يجمعهم .
الأرض بأسرها رددت صداه ، فأجتمع شمــــــل المشـــــــــــــتتين .
هتاف الله و هتاف الروح القدس و هتاف النبي لم تسمعه اليهودية ، إنمــــا سمعه العالم بأسره :
صـــرخ به في آذان أناس صم ، والذين قبلــوا تعاليم المســــــــــــيح فتحوا له آذانهـــــــــــــــم .
إن تأملنا حقاً ، وجدنا أن تلك البركة هي بنت اليهود : من أين جــــاء الرســـــل ، أبنــــــاء الأنبيـــاء ؟
و من أين جاء أولئك الخمســـــمائة الذين شاهدوا الرب بعد قيامته فتكلم عنهــــم بولــــــــس الرسول ؟
و من أين جاء المائة و العــــشرون ، الذين كانوا مجتمعين معاً في مكان واحد ، بعد قيــــامة الــــرب
وصعوده إلي السماء ،
حيث حـــــل الروح القدس عليهــــــم في اليوم الخمسين نازلاً من الســــــــــماء بحسب الوعــــــــد ؟
هنــــــاك كان أولئك الذين ســــــــــبقوا فســـــــــــــــكنوا معـــــــــاً
بـــــــــــعد أن باعـــــــوا كل ما لهـــــم و وضــــــــــعوا ثمنــــــــــه على أقدام الرسل ،
ليـــوزع على كل واحد بحسب حاجته ، و لم يدع أحد شيئاً لنفسه ،
بل كــــان كل شـــــــــيء مشـــــتركاً فيما بينهـــــم ،
و كانوا متحــــدين في الله بنفس واحدة وقلب واحد .
سمع الأولون و لكنهم لم يكونوا وحدهم لأن هـــــــــــــــــــذه المحبة و الوحدة الأخوية لم تصـــــلا إليهـــم ،
بل وصلت إلي ذريتهم تلك الغبطة في المحبة و تكريس النفس لله .
و لبي الرهبان صـــــوت المــــــــزمور و تجاوبوا مع تــــــلك الموسيقي الشــــجية .
و ما معني لفظة راهب ؟
الراهــــب هو من كان واحـــداً و ليس وحيداً أياً كــــــان لأنه واحد في جماعة .
و بمـــــا أن هذه الجماعـــــــة تســــــتلزم ، لكي تتألف ، عدة أشـــــــخاص ،
فإن الراهب لا يمكن أن يكون واحــــــــداً أي وحيــــــداً : انه واحد وحيــــــد .
إن الذيــن يحيون حياة مشـــــتركة و يؤلفــــــــون شـــــــخصاً واحـــــــــــداً
يحققــــــون في ذواتهم قول الكتاب وهو أن يحيوا بنفس واحدة و قلب واحد
كثرةً في أجســــــادهم و وحـــــدة في قلوبهــــم .
و بهذا المعني يقال حقـــــــــــــــــــاً راهب أي واحد و وحيد .
إن الراهـــــــــب صورة لوحدة الكنيسة
و الذين انفصلوا عن الوحــــــــــــــدة يجدفون حقاً على الرهبان ،
فلا يروقهـــــــم اسم( رهبـــــــــــــان) وقد أبوا الســـــــكني معاً
و لهـــــــــــــــذا أتبعوا الضــــــــــــلال و تخلوا عن المســــــيح .
عليهــــــــــــــــــــــم قبل سواهم من الناس ، قبل الرســــــــــــــــــــــــــل ،
فاضت تلك النعمة فاحتملوا هجمات العالم لأن الروح كان قد حل عليهم .
و الذين سبقوا غيرهم في الســـكني معـــاً تحملــــــــــوا الاضطهــــــــاد
فكان منهــــــــــــــــم القديس اسطفانوس الذي تألـــــــم دون أن يقهـــر ،
لأن الروح القـــــدس كان قد حل عليـــه .
أقوياء كثيرين تحمـــــــــــــــــــــلوا شتى أنواع الاضطهادات ،
ولولا حبهم لله وسكناهم معاً لما خلّوا لنا اليوم أدياراً .
و لكن بما أن المحبة ، محبة لله ، فاضت شذاً طيباً على ثوب المسيح ،
فقد سارت الكنيســـــة في أثرها وولدت الأديار من ثـــــوب الـــــــرب .
حســـن لنا أن نســـــــــــــــكن مع المتوحدين حياة هدوء ،
بعيــداً عن ضوضـــــاء العالم و صخب الناس و قلق الجماهير و أمواج الكون العاتية ،
لأن الذين اختاروا تلك الحياة قد بلغوا إلي المينــاء دون أن يبلـــغوا الفــرح النهـــائي
لأن الزفرات و التجارب لا تــــــزال قائمـــــــــــــــــــــــة .
و للميناء بـــــــــاب لا يستطيع أن يدخل إليه إلا به .
تدخــــــــــل الريـــــــــــــــــــــاح أحيـــــــــــــاناً مــــــــــــن ذلـــــك البـــــــــاب
و لعـــــــــدم وجــــــــــــــــــــــود الصخــــــــور تتصــــــادم السفن و تتحـــطم :
على السفن أن تحافظ على الهـدوء ، و النظـام لئـــــــــــــــــلا تتصــــــــــــادم
و عليهــــا أن تــــــرعى المســـــاواة و العـــدل و المحبــــــــــة الدائمـــــــــــة
حـــــــــتى إذا هــــــبت عليهــــــا الريـــــــــــاح جابهتها الإدارة بحكمة وروية .
تيقـــــــــظ ولا تقبــــــــــــــــــل أي شــــــــــــــــــــــــرير .
كن حذراً لأن الإنسان لا يُعرف إلاّ إذا امتحنته من الداخل .
إن كان الداخلون لا يعرفون نفوسهم فكيـــــف بك أنــت ؟
كثيرون تواعدوا على أن يحيـــــــوا تلك الحياة المقدسة
وإن يكــــــــون كل شيء مشتركاً بينهم بحيث لا يملك أحد شيئاً خاصاً به
لأنهـــــــم بالله نفس واحدة وقلب واحد : لقد ألقوهم في الأتون فتحمَّصوا .
يجـــــاهد الراهب أيضاً ، كل يوم ، في باطنه ،
ومع أنه وحــــــــــده ، فأنه يجاهد في قلبـــه مع الجمهور :
البخل يســـــتهويه والشهوة تستهويه ،
النهم يســــتهويه وكل شيء يستهويه فيميل عن كل شيء ،
إنمــا يصعب عليه أن يظـــل في حميّ مــــــــــــن كل شيء .
أين هي الطمأنينة ؟
لا وجود لها البتــة ، في حياتنا هذه ،
إلا إذا رجونا فقط ، مواعيــــد الله .
و ينخدع الناس في حالتين :
حــــــــــــــين لا يحيـــــــــون حياةً أفضـــــــل ،
أو حـــــــــين يستســـــلمون إليها بوقــــاحة .
و متى أرادوا أن يثنوا على هذه الحياة تجــــــــاهلوا ما فيهـــــــــــــا من شرور .
و متى أرادوا أن ينتقدوها انتقـــــــدوها بنية شريرة حسود متعامين عن خيرها ،
مغـــــــــــالين في إظهار ما فيها من شر أو ما يظنـــــــونه شــــــراً .
غالبــــــــــــاً ما تكـــال المدائح جــــــــزافاً على جمعيــــة رهبانية فيقبل الناس إليها
و يصطدمون فجــــــأة بأنــاس أشـــــــــــــــرار فيتراجع من بينهم بعض الصالحين .
أمــــــــا أنت يا من تلوم ، بدافع من الحســـــد أو تمتـــدح بلا حســــــــــــــــــاب ،
فعليتـــك أن تقــــــــــــــر بوجــــود أنــــــــــاس صالحين إلي جانب الطـــــــالحين .
في الأديــــار قديسـون مشهورون يعيشــــون كل يــــــــــــــــــــــــوم في الترانيم والصــلوات ،
يســــــــــــبحون الله و يقرأون الكتـــــــــب المقدســـة و في ذلك خــــير لهــــــم :
يشتغلون بأيديــــــهم حتى نهاية حيــاتهم ولا يصــرون على شيء لأنفســــــهم ،
بل يســــــــــــتعملون بقناعة و محبة ما يقدمــه أخــوة لهم و رعــــــــــــــــون .
بيــــــد أن مـــن يجهـــل ما يحــــــــــــــــــــــــــــــــــدث فـــي الداخــــــــل ،
ولا يــدري كيف تتصادم السفن متى هبت عليها الرياح فـــي المينـــــــاء ،
يدخــــــــل طالباً السلام جاهــــلاً ما يجب أن يتحمـــــله فيجد أخوة أشراراً
ويضـــيق ذرعــــــــــــاً بشـــــــــــــــــــكل لا يطــــــاق .
ما الذي يجذبني إلي تلك الحيـــــــــــــــاة ؟ ظننتني أجد فيها المحبـــة .
وإذ به يأنف ، غاضباً على تصرف قــــــلة من الأخــــــــــــوة ،
فيـــأبى تحقيق عهد قطعه على نفســــه ، متخليــاً عن قصده المقدس ،
ويـــأتي بحــــــــق النــــــــــــذر ، رافضــاً القيــــــــام بـــــــــه .
و متى ترك الدير أصبـــــــــح هو ذاتـــــــه نقـــاداً لما يجـــري فيه و لاعناً ،
مكتفياً بالتحدث عمّا لم يتمكن من احتماله و غالباً ما يكون ادعاؤه صحيحاً .
بيــــــــــــــد أن معاشرة الصالحين تقضي علينا بأن نتحمل بعـــض حقائق الأشرار .
و لكن الأفظــــــــــع من هذا كله هو أن الشرَّ يبــــث رائحة كريهــة ،
تجعــــــــــــــــــــل من كان مســـــــــــــتعداً للدخول أن يهــــــــرب
لأنــــــــــــــــــــــه هو عينه لم يتمكـــن من الصــبر لدي دخـــــوله .
و من هم هؤلاء ؟
إنهم المشـــــــاغبون ، البخلاء ،
الذين لا يتحملون أحداً لأن فلاناً فعل هذا و فلاناً فعل ذاك .
يا شرير ، لـــــــــــــــــم لا تتكلــــــــــــــــــــم عن الصــــــــالحين ؟
أنت تستعرض أعمال من لم تستطع أن تتحمـــــــــــلهم ،
و تســـــــــــكت عمَّن تحمـــــــــــلوك مع ما فيك من شر .
أني أقــر بصــــراحة أمـــام الــــــرب إلهـــي الذي يشــــــــــــــهد على نفــــــــــــــــــــــــــــــسي ،
بأني منذ الدقيقة التي فيها شرعت أخدم الرب قــد عرفت بصعوبة إنهم أفضل ممن يدخلون الدير ؛
و لم أعرف عن خبرة إن كان الذين عثروا فيه هم شر من غيرهم .
إن ذلك العدد الضخم من الإعلام يعزينا عن شرور كثيرة ترتكب .
لا تكره المعصرة و ما فيهــــــــــــــا من زيــــــــــــــــت عـــــــكر تأنف منه عيناك ؛
طالمــــــــــــــــا إن الفضل في تعبئة أقبية الرب بالزيت الصافي يعود إلي المعصرة .
إن دخلت ديراً فلا تنـــــــظر إلي الـــــــــــــــــــــوراء .
تذكـــــــــــر أمراءة لـوط : لما نجـــت من صــادوم و دخــــــــــــــــلت فــي طـريق السلام .
تطلــــــــعت إلي الـوراء فبقـيت فــي مكانها ثمثـــــلاً من ملـــح .
تــــــــــــــــــــأمل :
حافظ علي قلبــــك، ولاتكـــــن أحمـــــق ؛ لا تنظر الي الوراء كيلا تعطي المثل العاطل فتبقي و تملّح غيرك .
لا تتخلّ عن وعدك ونظــــــــــــــــــــــرك المقــــــــــــــدس : و أرع حكـــــــم الله من دون حكـــم النــــــاس .
ما أفظــــــــــــــــع أن يعد الإنسان بشيء ثم يخلف بوعده .
لا يجوز للعذراء التي تنـــــذر عفتهــا ، و إن لم تدخل الديـر ، أن تــــتزوج ،
مع أنها لا ترغم على حياة الــــدير .
أما إن بـــــدأت تعيش في دير ثم تركتـه و ظلت عـــــــــــذراء تسـقط جزئياً .
و هكـــذا تنذر شـــــــــــيئين :
القداسة والحياة الإكليريكية ؛ القداســـة في باطنـــــــــــــــــك .
إن اللــه وســــــــــم جبينك بالدرجات المقدسة خدمة لشـــعبه ،
وإنهـــا لمســــــــــــــئولية تناط بك أكثر مما هي شرف تُعطــاه .
وبالتالي :
فقـــد تعهــــــدت بأن تكون قديســة وإن تحيا حياة مشتركة ،
وأعــــــــلنت بأن سكني الأخـوة معاً شيء مســــــــــــتحب :
إن أخلفت بوعدك ســـــــــــــــقطت ،
وإن حـــــــفظــت قداســــــــــــــتك في الخارج فقـــد ، ســقطت أيضاً جزئياً ؛
أما إذا إنـــــطوى باطنك بكليتــــــه على الخبث والغش ، سقطت كليــــــــــــــاً .