الفصل السادس عشر
حين أتـــــي الــــرب إلي العالم ، أتي متنكـراً ،
و ظهر ضعيفاً بالجسد ، و هــــو القوي في ذاته .
و لزم أن يكون منظوراً كيلا يعرفـــــــــوه ، و محتقـــــراً لكــــي يقتلــوه .
سني مجـــــــــــــــــــده كامن في لاهـوته ، و لاهوته محجوب في جسده :
( لأنهم لو عرفوه لما صلبوا رب المجد ) " 1كور 2/3 ".
و سار بين اليهـــود ، مجهــــــــــــولاً بين أعــــــــــــــــــدائه ،
يصنع العجـــــــائب و يحتمل الغرائب حتى علقّ على الخشبة .
يــــوم تألم المسيح ، لأجلك تـــــــألم .
قال بطرس الرسول :
( تـــــألم المسيح لأجلكم وأبقي لكم قدوه لتقتفوا آثاره ) "2/21 ".
لقد تألم فعلمــــــــك الألم و قلَّ ما يفعل الكلام بلا مثل .
شــــــتمه اليهــــــــود و هو معــــلَّق عـــــلى الصـليب :
بمسامير قاســـــــــية كان معلقاً دون أن يفقد عـــذوبته .
و احتدموا غيظاً ضده وداروا حوله مجدفين كالمجانين ، حول طبيب ماهر .
و كان يداوي على صليبه قائلاً :
( أغفر لهم يا أبت لأنهم لا يدرون ما يصنعون ) (لو34:23).
و كــــــان يســـــأل و هو معلّـــــق :
و لم ينزل عن صليبه لأنه كان يداوي المجانين .
أسمع : أنت مسيحي و عضو للمســــــــــــــيح ،
فكــــرّ بمن أنــــــت و بالثمن الذي به اشتريت .
ابتلعت الحياة الأبدية الموت و شاءت أن تمـــوت في ما هـــــــــو لك ،
لا في ما لهــــــا وأخذت منك إمكانية الموت عنك .
و منك أخذت الجسد
و لكن بخــــــــلاف ما يأخذه الناس لقد كنت حقاً فيها ساعة قالت :
( إن نفسي حزينة حتى الموت ) " متى38:26 " .
إن الـــــــذي جاء ليمــــوت لم يخش الموت ،
و قــــــــــــد كان يوســــعه أن يبذل نفســـه و يأخــــــــــذها أيضـــــــــــاً .
إن الأعضاء كانوا يتكلمون في الـــــــرأس و الرأس يتكلم لأجل الأعضاء .
لقـــــد جعلك المســـيح جميــــــــلاً : بفضــل ما وصــل هو إليه مـــن القبــح ،
لو أنه رفـض أن يكـــون قبيحــــــاً : لما كنت أستعدت الجمال الذي فقدتــــــه .
على الصـليب لم يكن له شــــــــكل : لكن قبحه كان لك جمالاً .
تمســـــك في حياتك هذه بالمســيح : الـــذي لا جمــــــال له ؛
لأنه لــــــــم يرتفع على الصـــليب ليفـــــــــــدي نفســــــــه ،
مـــــــــــــن أرتفع على الصـــــليب دون أن يكون عليه ذنب .
و ليكــــــن صليبه فداءّ لنفســــــك لتضع فوقه كل ما أتيت من شر ،
و تتمكن من أن تتبرر بقيــامته .
كان ثمن فدائك مخفياً في جسد المســـيح
كما في محفظة فتمزقــت المحفظــة بالآلام .
علق المســــيح ، فســــــــــرّ الكــــــــــافر .
و طعنــــــــــــه أحد جلاديـــــــــــه بحربته فأفاض الفادى ثمن فدائك .
عــــلى المسيح الفادى أن ينشد نشيد الظفـر ،
وعلى يوضاس الخائن أن يكتئــــــــــــــــــب ،
وعلى اليهــــــــــــودي الذي أعطي ثلاثين قطعة من النقود أن يخجل .
يهوذا باع و اليهودي اشتري فأتيا شـــــــــــراً .
و بالحكم عليهمــــا هلكـــــاً . بائعـاً و شـــارياً .
الواحد باع و الآخر اشتري: يا للتجارة الخاسرة.
لا هــــــــذا أخذ المــــــــــال ولا ذاك المســــــيح .
أما أنت أيها المسيحي فأفرح :
لقــــــــد ربحت من تجــارة أعــــــــــــــــــدائك ،
فأخذت ما بـــــــــاع الأول و ما أشتري الثاني .
نقـــــرأ باحتفال قصة آلام من غفر بدمه ذنوبنا .
فنتذكرها كليـــاً في تلك العبــــادة الســــــنوية فينمو إيماننا نمواً و اضحـــــاً
ساعة نمارسها على صعيد شعبي تنازل ربنا وقـــدم لنــــا ، مثالاً في الصبر .
ما أحتمله من آلام لخلاصنا كي نفيـــــــــد من هـــــــــــذه الحيـاة الحاضرة ،
حـــتى إذا طلب منه شـــــيئاً إكراماً لإنجيله فلا يحق لنا أن نرفض آلامــــــه .
و طالما أنه لم يقبل شـــــيئاً مكرهاً في جسده المائت بل قبله حراً ،
و باختياره يحـــــق لنــــــــا أن نعتقد بأنه شاء أن يعطينا درســــاً
في كل مراحل آلامه التي وصــــلت إلينـــــا مكتــــــــوبة .
و كأني به حـــــــــين سيق للصلب حاملاً صليبه بنفســــه
يرمز إلي العفـــــــةّ التي يجـــــب أن يتحــــــــلى بهـــــا
كل من أراد أن يتبعه وأشار إلي هذا أيضاً بكلامه حين قال :
(من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني) " متى24:26 ".
كل مـــــن ضبط نفســــه حمــــــــــــل نوعـــاً ما صـــــــــــــليبه ،
ومن خلال صلبه وعذابه على الجلجثة أشار إلي مغفرة الخطايا
التي قيل عنها في المزمور :
( لقـــد ازدادت آثـــــــــامي فوق شعر رأسي )"مزمور 13:39 ".
و باللصين اللذين صلبا عن يمينــــــــــــــــــــه و يســــــــــــــــــاره ،
أشار إلي العذابـــــــــات التي يجب أن يتحملها القائمون عن يمينـه .
و القائمون عن يساره بحيث يقول :
للــــــــذين عن يمينه : (طــــــــوبي للمضطهدين على الــبر)
وللذين على يســـــاره :( إذا أسلمت جســــــــــدي ليحــــــرق
ولم تكـــــن فيّ المحبــة فلست شيئاً )
(1كور3:13 ).
و يشير بالكتـــــــابة التي تقول في أعلي الصــــليب:(ملك اليهود)
إلي أن قاتليــــــــــه لن يتمكنوا من الهرب من سلطة ذاك الــــذي أوضح لهم جلياً
بأعمــــــــاله ما لــــــــه من ســــــــــــــلطان يجــــــــــــب الاعــتراف بــــه .
و لهــــذا ينشد المزمور:(أني مسحت ملكي على صهيون جبل قدسي )(مزمور6:2)
و يستدل من اقــــــتراح رؤســاء اليهــــــود على بيلاطـــس بالاّ يكتـــب(ملك اليهود) ،
بل يزعم بأنه ملك اليهود أن بيـــــــــلاطس الذي رفض اقتراحهم هذا رمز للزيتونة .
البرية المغروسة محل الأغصان المنكسرة لكونه وثنياً .
و يعـــــــــــــــتبر كلامه هـــــــــذا بمثابة اعتراف الشعوب الذين قال عنهم الرب بحـــــق :
( ملكــــــــــوت الله ينزع منكم ويعطي أمه تصنع ثمــــــرة ) (متى43:21).
و مع ذلك فليس ملكاً لليهود : الجـــــــــــذع ، هو الذي يحمل الزيتونة ،
و ليست الزيتونة هي التي تحمل الجـــذع .
و مع أن تلك الأغصان قد تكسرّت في الكفر فلم يرذل الله شــــعبه الذي عرفــه ســــابقاً .
و مع أن أبناء الملكوت الذين رفضوا ابن الله ملكاً عليهم يذهبون إلي الظلمات الخارجية
فكثــــــــيرون يأتـــــــــــــــون من المشــــــــــــرق والمغـــرب ويســــــتريحون ،
لا مع أفلاطون و شيشرون بل مع إبراهيم واسحق ويعقوب في ملكوت السموات .
كتب بيلاطـــوس : ( ملك اليهود ) لا ملك اليونان و الرومان و إن يكــــن مزمعاً أن يملك عليهم .
وما كتب قد كتب . ولم يغّـــــــــــير طلبُ الكفــــــــــــــــــــــرة ما تنبأت به المزامير منذ القديـــــم :
لا تفســـــــد لداود كتابة :(مزمور 1:57 ).
إن الشعوب بأسرها آمنت بملك اليهود و مــــع أنـــــه ملك اليهود فإنه يملك على جميع الشعوب
لقــــــد كان بإمكان ذلك الجذع ســاعة طعمــــــــتّ فيه الزيتونة أن يحــــــــــولها إليـــــــــــــــــه
إنما لم يكن بوســــــــعه أن ينزع عنها اسم الزيتونة .
و إن الجنود الذين اقتســـــــموا ثيابه يمثلـــــــــون قارات العالم الخمس
حيـــــــــث يجـــــــب أن تنشـــــــــــر تعـــــــــــــــــــاليمه .
و القميص ذو النسج الواحـــد ، الذي اقترعوا عليه ولم يقتســـــــموة ،
يشــير بوضـــــــــوح إلي أن الأســــــرار المنظــــــــــــورة .
و إن تكن عـــــــلى مثـــــــــــــــــال ثياب المسـيح جديرة بأن يقبلهــــــــــــا الجميــــــــــــع
أبـــراراً كانوا أم أشراراً أما الإيمان الصادق الذي يعمل بالمحبة ونقاوة الوحدة .
طالما أن محبة الله قد أفيضـت في قلوبنــــــــا بالـــروح القــدس الذي أعطينــــــــاه
فليـــــــس من نصيب الكل بل تمنحه النعمة الخفية بقرار خاص .
و لذلك قال بطرس لسيمون الذي قبل العماد دون النعمة :
( فلا حصة لك ولا نصيب في هذا الأمر ) " أعمال21:8 "
و كإنسان محب أوصـــــــي ، و هو على صـــليبه ، بأمه تلميذه الحبيب .
و قبـــــــــل أن تأتي سـاعته حوّل الماء خمراً وقال لتـــك الأم بالــــــذات
ما لي ولك يا امرأة ؟ لم تــــأت ساعتي بــعد .
لم يأخـــــذ من مريـــم ما له كإله كما أخذ منها ما عـــــلّق على الصليب .
وإذا قال : أنا عطشان ، كان يبحــــــث عن الإيمـــــــــــان لدي خاصـــته .
و إذا جاء إلي خاصته و لم تقبـــــــــله خاصـــــــــــــــــته ،
قدّموا له مرارة الخل على اسفنجة بدلاً من عذوبة الإيمان .
لا يجوز لنا أن نشــــبه الأقـــــــــــــــوياء بالأســــفنجة بل المنتفخين كـــــــــــبراً ؛
ولا يجــوز أن نشبه بها المستسلمين إلي إيمان مستقيم بل المغلقين على أنفسهم
تحت وطــأة مداخـــــلات الشرير و مكــــــــــــــــــــــــــائده .
أكيـــــد بأن ذاك الشراب كان يحـــــــتوي عـــــــلى الحنظل ،
تـــــــلك النبته الوضيعة التي تلتصق بالصخــــــــر بواسطة جـــــــذر لها قــــــــوي .
و أتخذ ذاك الإثـــــم في ذلك الشعب ترويضاً للنفس بالندامة و حفظاً لها بعيداً عنه .
إن الذي شرب المـــــــر ممــزوجاً بالخـل كــــــــــــان يمــــيزّ بينهما
حـــــين صلي من أجلهم على الصـــــليب بشــــــــهادة الإنجيلي قائلاً :
( أغفر لهم يا أبت لأنهم لا يـــدرون ما يفعلون ) .
و حين قال: لقد تـــــــم كل شــــــــيء و أحنى رأســــه و أســــلم الـــــــروح
و أشار إلي أنه لا يموت بقوة حتمية بل بقدرته الذاتية تحقيقاً للنبوءات عنه .
و هذا أيضــــــاً قد كتب فيــــــه : ( و في عطـــــــــــــــشي سقوني خلاً )
كمن له سلطان أن يبذل نفســـه وفقاً لما أكده هو ذاته لقد اســـلم الروح
و حنى رأســــه ليشهد للتواضع لأن قيامتـــــه سوف تتــم مرفوع الرأس .
و أعلن ذاك الإنجيل أيضاً إنهم لما رأوه مات لم يكســـروا بل كسروا سوق المصــــلوبين الآخــــرين
لتتحقق نبوءات الفصح اليهودي القائــــلة بالاّ يكسر عظم من حمل الفصح .
و ذاك الجنب المفتوح بالحـــــربة و قد جري منه دم و ماء
كـــان رمــــزاً للأسرار التــــــــي تكــــــونت الكنيســـــــة ــ
كمـــا استلت حــــــواء من جنب آدم أصل الجنس البشري كله و هو نائم .
و ليوسف ونيقوديموس اللـــــــذين دفنـــــاه
كما لكثــــــيرين ســـــــــواهما من النـــــــاس معان و رموز:
فيوســـــــــــف يعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــني التقــــــــــدم
و نيقوديموس لفظة يونانية مركبة من شقين: نصر و شعب .
و أي شــــــــئ أخصب من موت القـــــائل :
إن حبة الحنطة إن لم تمت تبقي مفــــــــردة
و إن ماتت تأتي بثمار كثيرة .
و مـــــــن الذي ينتصر بالموت على مضطــــــــهديه
سوي ذاك الذي ســــــــــــــوف يدينهم بقيامتــــــه ؟