الفصل الخامس
في التوق إلي السعادة الأبدية
لقد علمت بوجود مدينتين :
و متميزتين الواحدة عن الأخرى ههنــــــا ، جسماً و قلباً ،
و باقيتين على هــــــذا الحــــــــال على مـر الأجيـــــــــال :
أحداهما تبغي السلام الأبـــــدي و تدعي أورشــــــــليم ،
و الأخرى تفرح بالسلام الزمنــــي و تدعي بابــــــــــــــل .
بابـــــــــــــــــــل تعنــــــــي البلبلــــــــة ،
و أورشــــــــليم تعنـــــــي رؤية العالم .
هاتان المدينتان همـــــــــا
وليدتا حبيــــــن اثنيــــــن :
أورشـــــــــليم وليدة حب اللــــــــــــه ،
و بابـــــــــــــلُ وليدة حب العالـــــــــم .
أنــــظر إلي الحب الذي فيـــك تعرف إلي أية مدينة تنتسب :
إن كنت مواطناً بابليـــــــــاً فانتزع منـــــك الشــــــهوة ،
و أغــرس محلهـــا المحبـــة ،
أما إن كنت مواطناً أورشليمياً فأحتمـــــــــل الأســــــــــــر ،
و ارجُ المحبــــــــــــــــة .
بـــــــقي الشعب الإســــرائيلي في الصحراء أربعــــين سـنة ،
قبــــل أن يدخـل أرضَ الميعـاد و يمــــلك عليهـــــــــــــــــا ؛
وأنــــــت في هذه الحياة عينها ، حيث الهمـــوم و الأخــطار ،
تحيق بك من كل جــــــــــــانب ، تسيرُ كمــــا في صحـراء .
وعــدك الله بخـــــــير لا توصف عذوبته ،
وفقــــــــــاً لما جــاء في الكتـــــــــــاب :
( ما لــــــم تـــــــــــره عـــــــــــــــــين ،
ولم يخطـر على قـــلب بشـــــــــــــــــر )
"1 كور2/9 ".
ضــــــــيق الزمـــــــــــــان يعلّمك ،
و تجارب الحياة الحاضرة تصقل ،
مــا فيــــك مــــــــــــــــن شـــوق .
و إن أبيت أن تموت عطشاً في تلك الصحراء ،
فــــــارو عطشك من المحبـــــــــة .
لمحبــةُ ينبوعُ فجرة الله ههنـــا ، كيـلا تخور قواك على الطريق ،
فاشـرب منــه و اســـــــــــــتزد ، لــدي وصـــولك إلي الوطــن .
إن لـــم يشــــــــق عليـــــك الســــــــفر فلســـــــــــت تحـــــب الـــــــوطن .
أما إن كان الوطنُ عـزيزاً عــلى قلبـك ، فستشــــــعر بمـــرارة الســـــفر .
إن شقّ الســــفر عليــــــــــــــــــــــــك كانت التجربة ملازمةً لك كــل يوم .
هنــــا الضيـــــــــق ، و فوق ، نهاية الأحزان و الأتعـاب .
هنـــا الصـــــــــلاةُ ، و فوق ، التســــــــــــــــــــــــــبيح .
هنـــا الأحـــــــزان ، و فوق ، أناشـــــــــــيد الفـــــــرح ،
حيث تختلط أصواتنا بأصوات الملائكة .
هنـــا الرجــــــــاء ، و فوق ، المشاهدة الدائمة و الحـــب إلي الأبـــد .
طالما أنك لســـــــــت فــوق ، فلســــــــــــت على خــــــــــــــــــــــير .
و إن وفـــرت لديــك الخـــــــــيرات ،
فهل تطـــمئن إلي بقائهــــــــــــا لك ؟
مهما بلــــغت ثــــــروات هذا العالم ،
فهـــل أنــــت واثــــــق من بقائها ؟
وهب أن الله قال لك من عليـائه :
انـــت لهــــا إلي الأبـــــــــــــــد ،
وهـي لـــــك إلي الأبـــــــــــــــد ،
إنمـا لـــــــن تري وجـــــــــهي .
إيــاك أن تســــتشير الجســـــدَ بل الــــــــــروح ،
و خـذ الجــــــــوابَ من قلبــــــــــــــــــــــــــــــك ،
و مما فيــــــــــــــك من إيمان و رجاء و محبــة .
إن ثبت لك إنك :
سوف تملك خيور العالم ، بأسرها ، حتى الأبــــد ،
و قــــــال اللـــــه لــــــك : لـــــن تـــري وجهــي ،
فهل تفرح بمـــا لديــــــك مـــــن خــــــــــــيرات ؟
و إن كان لك الكـــثيـــر ، و عشتَ في بحبوحـة ،
و أكتفيت بمــا لديـــــك ، فلســتَ تحـــبّ اللــه ،
و لا تتنهد كالأســــــير .
حاشا ، حاشا ،
أطـــــرح عنك المغريات و الطيبــــات الكاذبـة ،
وارفــــع نفســـــــــــــك إلي الأعــــــــــــــالي ،
وأعترف باكيـــــــــــــاً على ما فيك من شـقاء .
وليكــــن مـــــــــــا لك مــــراً مــا عــــدا الله .
قل لإلهــــــــك : رب ، أني أرفـــض كل ما أعــــطيتني ،
إن لــم تعطني ذاتــــــــــــــــــك ،
يا مـــــــــن وهبتني كل شـــيء .
ليت الإنسان ، يتوق بقلبـــــــه إلي مجـــد الله غير الموصـوف .
ليتك تشـــعر ، أثنـاء ســــــــفرك ، بأنــــــــك : لا تحب العالم ،
بل تتوق باستمرار إلي مـــــن يدعـــوك إليه .
الشوق هو : أن يفتــــــــح الإنســــــان قلبـــــــــــه ،
و ينبســـــــط ما استطاع نحو غايته .
إن كتاب الله وجمهور الناس و الاحتفال بالأسرار المقدسة ،
وسر العمـــــــاد و الترانيـــــــم الروحيـــــــــة ،
هـذه كلها أمــور تولد فيـــــــك هذا الشــــــوق ؛
لا لكـــــــي يظهــــــر وحســــب ،
بل لكــــــي ينمــــــو وينمــــــو ،
ويصــــيرك أهـــــلاً لأن تــدرك :
( ما لم تـــــــــره عـــــــــين ،
ولم يخطر على قلب بشر ) .